عين على الأحداث

تشرين- إدريس هاني:

فاز أسود الأطلس بمبارة تجاوز الربع النهائي مع البرتغال بمونديال قطر، وترافق هذه المباراة مشاعر ميتا- كروية، باعتبار أنّ جوهر اللّعب ممتدّ فيما يبدو لنا أكثر جدّية في مشاعر الشعوب وآثار ذلك على الواقع، من يسعى للتفريق بين اللعب والعقلانية، ما زال على عهد الحداثة القديمة لا الحداثة الراهنة، ففي منطق الإنسان اللعبي نحصل على العقلانية، لكن أنّى نعثر على الأبعاد الأخرى في الإنسان العاقل؟ إنّ محاكمة الكرة بمضمون يعود إلى 1758، حين نحت كارولوس لينيوس المنحوتة الصنمية: الـ(Homo Sapiens)، سيجلب علينا لعنة هويزينغا كما تحدثنا قبل ذلك. فالعقلانية تكمن اليوم في صميم فكرة اللعب. وعليه يمكننا صياغة المعادلة الهيغلية بطريقة أخرى في ضوء نمط الإنسان اللودنز كالتالي: كلّ ما هو عقلي هو لعبي، وكل ما هو لعبي هو عقلي.
– هناك من سعى ويسعى لتوجيه مشاعر العرب تجاه فوز أسود الأطلس، وذلك باختزال أبعاد المغرب في البعد الأفريقي فقط، في سياق استهتار بالتاريخ العربي قديمه وحديثه، وأيضاً في سياق استهتار بالبعد الإسلامي قديمه وحديثه، ولا أدري ما مدى واقعية كل هذه الدعوة، فلئن كان لا يكفي كمؤشّر، عضوية المغرب في جامعة الدول العربية وفي المؤتمر الإسلامي، للحديث عن البعدين، فإنّه ليس أمام من يجنح لهذا الاختزال لإقناع الجمهور العربي- الذي نظم قصائد حماسة ومديح لأسود الأطلس- إلّا أن نتجاهل اللّسان المشترك، ونحاكم أبطال الفريق على سجودهم الجماعي عند الفوز، يجب أن نتحلى بأقصى العقلانية والواقعية لنفهم ذلك، ولاسيما حين نتحدث عن موقف إصلاحي ونهضوي وحداثي، فعلينا ألّا نستخفّ بمعتقدات الأمّة، أو الاستهتار بمفهوم الأمّة نفسه، إنّنا وطن في أمّة ولسنا وطناً معزولاً، لسنا جزيرة، فالبعد الأفريقي هو بعد قاري، وليس بعد أمّة، ومن لم يرَ في تدفق مشاعر الأمة عشية الفوز مؤشراً على تلك الأبعاد، فهذا مؤشر آخر على عمى الألوان.
– أظهر أسود الأطلس من دون مزايدات أيديولوجية، ارتباطهم بالأسرة والأمّ تحديداً، هذا درس لفت انتباه المراقبين في المجتمعات الغربية، فالقيم التي كشف عنها المونديال والفوز المافجئ لأسود الأطلس، هي قيم الحبّ والأسرة ورضا الوالدين، أشياء يفتقر إليها الغرب وتهدده بالانقراض، لنتساءل: كم يوجد أوروبي حقيقي في الفرق الأوروبية المتبارية؟ إنّ الجواب واضح، فالفرق الأوروبية غدت أفريقية، وهذا مؤشّر على أنّ أفريقيا تدخل عصر الإنسان اللودنز من أوسع الأبواب.
-يجب استنفار ما هو رمزي في هذا الفوز، فهو فوز للمغرب ولكل القيم والمكونات التي لها صلة بهذا البلد، فلقد كانت ملحمة ومسؤولية في الوقت نفسه، لقد تمّ تجاهل المغرب في أكثر من محفل، تجاهلاً ممنهجاً لأسباب أهونها أنّ المغاربة لا يبذلون جهداً في البروباغاندا، ولا يعرفون كيف يسوقون أنفسهم ولا حتى تجارتهم، وهم على وضعية الدروشة القديمة، يعتبرون البروباغاندا مبالغة وكذباً معيباً في ثقافتنا، من ناحية ثانية هناك تجاهل للعرب والمسلمين، وحين نقول المغرب والمغارب، وجب ألّا ننسى أنّها هوية مركّبة، وهذا يكشف عن المكون الأمازيغي الأساسي، ففي المغرب هناك تكامل بين قطبين: قرويين فاس وإليغ سوس العالمة، في منصهر واحد، ومهما حاولت دعوات تمزيق النسيج الاجتماعي الواحد على عهد الظهير البربري الاستعماري، فهذا لن يتحقق، لسبب بسيط، هو غياب وجود أي مشاعر شوفينية لدى المكونين، فقط يبقى أنّ هناك مطالب ثقافية حقّة، تبقى مسؤولية الجميع، شخصياً؛ أشعر بأن شيئاً ما ينقصني كثيراً، لكوني لم أتعلم الأمازيغية، كان من المفروض أنّ نتعلمّها إجبارياً، القضية أبعد مدى وتعقيداً من اختزالها في جنوح للحركة الوطنية غداة الاستقلال.
– حين ألهب أداء أسود الأطلس مشاعر العرب، حين سجدوا في الميدان، حين رفعوا العلم الفلسطيني، كل هذا كافٍ لحسم سؤال الهويّة، ولا بدّ أن نأخذ في الحسبان العواطف أيضاً كرافعة أساسية للعقلانية حين تتحوّل إلى معقول سوسيو-ثقافي.
– العالم يتقاتل على الشرق الأوسط وفي الشرق الأوسط، وهناك من يدعونا لفك الارتباط مع الشرق الأوسط، لكنه يعود ويدافع عن التطبيع مع الاحتلال في الشرق الأوسط، ويعدّ ذلك امتيازاً وأحياناً شطارة، أمّا الحداثيون، فهم إن قرؤوا تاريخ التحديث في الوطن العربي، سيدركون لا محالة بأنّ مشروع النهضة والإصلاح والتحديث في الشرق هو سابق، لقد سبقوا لوضع مداميك نهضة سياسية ضد الاستبداد مع الكواكبي، ضد الاستعمار مع السيد جمال الدين الأسد أبادي، ضدّ الجهل مع شبلي شميل، ضدّ التخلف مع رفاعة الطهطاوي، ضدّ التقليدانية الأدبية مع البساتنة واليازجي وصولاً إلى طه حسين، والقافلة طويلة، ولما نتحدث عن القطيعة مع الشرق باسم الحداثة، فإنّ هذه المزايدة الموروثة عن فلان وفلان، لا تزيد ولا تنقص.
طيب: ما المطلوب، وكيف؟ ليست مشكلتنا هي سؤال أيّ هوية نريد، فهويتنا تأسست بفعل التاريخ وحتميته، بقوة الاجتماع وحضوره، برسوخ تجارب الأمة، السؤال: كيف نتقدّم وليس السؤال: من نحن؟!
– في هذه المبارزة بين أسود الأطلس والفريق البرتغالي، تدلّت الذاكرة المشتركة، هذا شعور مغربي خالص، فلقد خضنا في التاريخ معارك كبرى، مع البرتغال التي تربعت على امبراطورية تبدأ من شبه الجزيرة الإيبيرية إلى آسيا القصيّة وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وقد كنّا سبباً في انهيار هذه الامبراطورية التي لم تغب عنها الشمس قبل البريطانيين، لقد تسببنا يوماً في انهيار هذه الامبراطورية ومنحنا فرصة للأسبان لامتلاك شبه الجزيرة الإيبيرية، كانت حرب وادي المخازن حاسمة حيث انهار فيها الجيش البرتغالي الغازي وقُتل الامبراطور، هو إذاً مكر التاريخ، هؤلاء القوم وحدهم يفهموننا ويحترموننا، ونحن كذلك على الرغم مما فعلوا بنا خلال تاريخ مديد ما زالت مفاعيله موجودة على الأرض، ثمة زلزالان أصابا ليشبون، أحدهما سياسيّ أنهى عصر الامبراطورية بعد مقتل الامبراطور سيباستيان في معركة وادي المخازن قرب مدينة القصر الكبير المغربية، وزلزال لشبونة الطبيعي العظيم الذي أهلك الحرث والنسل، لكن أحفاد البرتغال هم من أطيب الغربيين، وينطوون على تاريخ كبير، ويستمر التاريخ لكنه يجدد مكره باستمرار.
– لعله من المفارقة أن يكشف المونديال عن حقائق مهمّة، ويترك آثاراً قد تمتد لما هو سياسي واقتصادي واجتماعي، فالمشاعر التي وحدتها الكرة لن تكسرها السياسات، والبلد الذي يتأهّل للأطوار المتقدّمة في المونديال يجب أن ينهض بكل قطاعاته، إنّ الفوز الكروي يعني الخروج من مرحلة التبعية وفقدان الثّقة، نستطيع أن ندخل عهد التقدم والصناعة واللّعب مع الكبار.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار