في السنة الثانية للغياب.. منجزه السينمائي وعفويته أبقيا«ريمون بطرس» بيننا
لا يمرّ حديثٌ عن المخرج الراحل «ريمون بطرس 1950- 2020»، من دون تذكّر موقفٍ، طغت فيه عفوية الرجل وتلقائيته، على ما يُبديه الآخرون من جدية وصرامة، لهذا كان الجميع أصدقاءً له، وللسبب ذاته، كان مُنتجه الفني، مباشراً لا يعترف بالمواربة، بسيطاً وصادقاً على ما فيه من غنىً وبحث، منذ حصل على منحةٍ لدراسة السينما في الاتحاد السوفييتي عام 1976، وفيها قدّم أولى تجاربه الإخراجية، في الفيلم التسجيلي «صهيونية عادية»، إلى أن أصبح في رصيده اثنان وعشرون فيلماً، أربعة منها روائية طويلة: «المؤامرة المستمرة”، “الطحالب”، “الترحال”، “حسيبة»، إضافةً إلى ثمانية عشر فيلماً بين تسجيلي وروائي قصير آخرها بعنوان «أنغام الخط الشامي» عام 2015.
ومع إن أبو عمر” اشتُهر بكونه مخرجاً سينمائياً، إلا أنه كتب في ميادين مختلفة، منها إعداده عشرات التمثيليات للإذاعة عن نصوصٍ أجنبية، وترجمته أكثر من مئةٍ وخمسين ساعة سينمائية لصالح التلفزيون السوري، إلى جانب كتابة مجموعة من المسلسلات منها):قلوب خضراء، أم هاشم، زواريب مدينة منسية)، ويُقال: إنه كتب سيناريو لمسلسلٍ عن مدينته حماة، لكنه لم يجد طريقه إلى الشاشة، كذلك نشر الكثير من المقالات والدراسات في صحف محلية وعربية، وعمل محرراً للأخبار في الإذاعة القسم الروسي.
في ذكرى غياب “ريمون بطرس” (2 آذار 2020)، نستحضر مشواره السينمائي مع الكاتب نضال قوشحة، والناقد سعد القاسم.
العودة دائماً إلى “حماة”
يعود قوشحة إلى تاريخ السينما السورية الحديث، واصفاً الراحل بالقامة السينمائية المتفردة، وواحداً من أقطاب الجيل الثاني من السينمائيين السوريين، مع مجموعة أسماء مثل “محمد ملص”، “سمير ذكرى”، “محمد بدرخان”، “أسامة محمد”، “نبيل المالح”، قدموا نتاجاً احتفت به السينما المحلية والعربية, لكن ما يُميز أفلام بطرس، ارتباطها بمسقط رأسه “حماة”، يضيف قوشحة لـ«تشرين»: هذا الانتماء تجلّى مثلاً في الفيلم الوثائقي القصير “الشاهد”، وفيه يسترجع ذكرياته، وحال المنطقة ككل، يحكي عن الجامع والكنيسة، ونهر العاصي الذي تعمّد فيه فنياً، ومع المؤسسة العامة للسينما قدّم ثلاثة أفلام روائية طويلة عن البيئة الحموية، ثم جاء فيلمه “حسيبة” عن البيئة الدمشقية، ضمن فعاليات “دمشق عاصمة الثقافة العربية”.
يستعيد قوشحة ما يعرفه شخصياً عن بطرس، من دماثة الخلق والمزاج العالي، يقول: كان للراحل لازمة يرددها «لعنة الله عليك»، استخدمتُها وأنهيت بها فيلماً وثائقياً قصيراً عنه، كتبته وأخرجته، بعنوان: قيثارة العاصي والسينما”، ولم يُعرض بعد، تم تصويره منذ عامين في “حماة”، وفي كل مكان عملنا فيه، كان الناس يساعدوننا عندما يعرفون أننا طلاب “ريمون بطرس” وزملاؤه، حتى إن عدداً منهم شاركنا ذكرياته مع أفلامه ورؤيته عن المدينة.
طبيعته المُحبة الودودة
لا يذكر الناقد “سعد القاسم” متى التقى بريمون بطرس “أبو عمر” أول مرة، لكنه يعلم أنهما أصبحا صديقين منذ وقت طويل, يقول في حديثٍ لـ«تشرين»: تلاقينا بمعظم الأفكار والقناعات، برغم أننا اختلفنا غير مرة، وأحياناً بحدة، وأعترف أن ردي القاسي على ما قاله في جمع أصدقاء يوماً، لم يؤدِ – رغم قسوته – إلى قطيعة، ولا حتى إلى زعلٍ صغير أو عتاب عابر، وكان أكثر الفضل في ذلك بسبب طبيعته المحبة الودودة. يضيف: كنت معجباً على الدوام بحرصه على إنجاز عمله بأفضل ما يكون، ولذلك فقد استجبت بمحبة لدعوة مساعدة (كمستشار سري مغفل الاسم) في أفلام وثائقية عن الفن التشكيلي السوري كان يقوم بإنجازها، عندما اكتشف أن المستشار الرسمي أخضع معلوماته لمزاجه الذاتي وحساباته الشخصية، فلم يكن قادراً – لأسباب عدة – على مصارحته، ولا لأسبابٍ مالية على الاستغناء عن اسمه.
أحبّ القاسم على الدوام في (أبو عمر) شخصيته العفوية ذات النكهة الشعبية، وروحه المرحة التي كانت تتقبل حتى المداعبات التي تطوله: كثيراً ما كرر دعابة قلتها عنه مرة، ونسيتها، لكنه كان يعيد التذكير بها في غير مناسبة مطلقاً قهقهة من القلب كل مرة، كان يقول: إنه حين أخبرني أنه سيتفرغ بعض الوقت للعمل في صحيفة “النور” علقت قائلاً: هذه أكبر خدمة تقدمها للسينما.
يقول القاسم: بطبيعة الحال هي مداعبة مناقضة للحقيقة، فما قدمه في السينما هو شيء جدير بالتقدير، وخاصة في فيلمه الجميل «الطحالب» الذي كتبت عنه يوم ذاك مقالة توقفت عند كثير من مكامن النجاح فيه، لكن روح المزاح بيننا أبت إلا أن تطلَّ من بين سطور المقالة، فعلّقت على مشهد جلسة “كيف” في غداء على نهر العاصي يظهر فيها وهو يغني منتشياً، بأن سيناريو الفيلم لم يتضمن ظهور “ريمون” فيه، لكن لما رأى “أبو عمر” هذه الجلسة المغرية عدّل السيناريو ليشارك الاستمتاع بها, غاب أبو عمر فجأة لكن منجزه السينمائي أبقاه بيننا، وكذلك حكاياته وُطرفه الجميلة، وحضوره الإنساني الجميل الماثل أمام أعيننا رغم الغياب”.