“يا متعلمين يا بتوع المدارس”
حين أُتيح لي الاقتراب من سائق باص النقل الداخلي، مع نزول عددٍ من الركّاب، قريباً من منطقتي السيدة عائشة والدحاديل، سألته إن كان بإمكانه التوقف على المفترق الصغير التالي، وأشرتُ له مع القول (جنب اللوحة)، ويبدو أنها لم تكن المفردة المناسبة، لأنّ الرجل المنهك، ابتسم بشيءٍ من الإدانة، مؤكداً أنها ليست (لوحة) بل (شاخصة مرورية)، مُعقِّباً بما يُشبه الشتيمة (يا متعلمين يا بتوع المدارس)، ونظر إلى مجموعة أوراق وجريدة في يدي.
في اليوم التالي، كانت الكلمة حاضرة على لساني، حين سألتُ السائق التمهل قريباً من (الشاخصة) إياها، لكن الرجل ضحك حتى أوشك أن يبتلع السيجارة المتوضعة على طرف شفته السفلى، وبصوتٍ طغا فيه السعال على بقايا الضحكة، سألني (لشو الفذلكة)، زاعماً أنها (لافتة) أو (آرمة)، لكنها بالتأكيد ليست (شاخصة)، وسرعان ما أضاف إلى تأكيداته، سلسلة من الاتهامات إلى خريجي الجامعات والمثقفين، واصفاً هؤلاء بـ(مدّعي الفهم) و(المتفلسفين) و(الناظرين إلى الآخرين باستعلاء)، والدليل تلك الكلمة!.
تنميط الآخرين في قوالب ووجهات نظر، يكاد يشمل مجتمعنا بأكمله، تماماً كما ارتسمت صورة السائقين لديكم أثناء القراءة، وفي مضمونه، تصدر أحكامٌ جماعية، مُتناقضة بشكلٍ غريب، فعلى العكس مما رآه الرجلان، ربما تذكرتم أقرباء وأصدقاء ممن يحملون شهاداتٍ جامعية وما فوقها، وفي رأيكم لا يستحقونها، خدمتهم الظروف أو المصادفة أو أساليب التعليم عندنا، ولعلّ عدداً منهم ليسوا إلا (موظفين) قليلي الحيلة وبعيدين عن (الفهلوية) ومحدودي الطموح، يشبهون نماذج كثيرة، قدّمتها الدراما التلفزيونية؛ موظفون يُؤدون أعمالاً روتينية، ينتظرون القروض وبيوت الجمعيات السكنية والزيادات على الرواتب، من دون سعيٍ فعليٍ لتحسين ظروفهم المعيشية.
تصنيف الناس إلى مجموعات، والتعاطي معهم على أساسها، يبدأ من المظهر العام واللهجة والكنية والمستوى التعليمي، ويصل إلى مكان السكن ونوعية الطعام، وركوب التكسي أو (السرفيس)، ويتشعب نحو لون العيون والشعر، وسعر الحذاء والقميص، وبالتأكيد ماركات الموبايلات والساعات والعطور، وعليه تأتي التوصيفات المجتمعية، جاهزة ومُجرّبة ومضمونة النتائج، مُحصّنة بالقداسة والحتمية، فتُعمم مثلاً صفات كالبخل والغدر والكرم، على مناطق ومهن وشرائح، وتتجاهل أي خصوصية للفرد ..