قراءة أولية للمشهد: بوتين صانع السلام العالمي
ماذا كانوا ينتظرون من موسكو، بعد أن بات اللعب على المكشوف على الحدود الروسية؟ كيف يستطيع أن يدرك ذلك من يجهل النسبية في الفيزياء والاستراتيجيا، حتى إنّه يقرأ السياسات الكبرى في ضوء معطيات السياسات الصغرى؟ المغامرة هنا مكلفة، واستفزاز الدّب الروسي ليس لعبة حميدة، هل روسيا بلد ضعيف حتى نستنكر عليها التحرك في ضوء مصالح استراتيجيا حساسة لأمنها القومي، بوصفها دولة عظمى وليست دويلة في متاهة جيوسياسية؟
أوكرانيا مؤشر أساسي على مستقبل النظام العالمي، لا أحد يجازف في تغيير قواعد الاشتباك في مستوى الحرب الباردة، ففي نهاية المطاف، استطاعت موسكو أن تؤكد أنّ لا شيء تغير، بوتين بخلاف غورباتشوف ويلتسين، هو ابن الحرب الباردة، ولا يريد أن يمتد حلف الناتو إلى الحدود الروسية، مناورات الغرب في أوكرانيا نسفت القانون التأسيسي لعام 1997، لقد بدا بالفعل أنّ الناتو وروسيا خصمان تاريخيان.
لا أستغرب ما يقع اليوم في المجال الأوراسي من محاولات ليّ ذراع روسيا لكي تسلّم للناتو بأنّه بالفعل هو القوة الضاربة في العالم، حيث وجب التسليم بأنّ مستقبل العالم سيكون تحت هيمنة القطب الغربي الوحيد. ثمّة لعبة ليّ ذراع سرعان ما باءت بالفشل، وجب التذكير بأن بوتين لعب دوراً هذه المرة استثنائياً في إرساء قواعد الاشتباك لعالم متعدد الأقطاب، وهو عمل في قلب مستقبل السلام العالمي وتوازن النظام الدّولي.
بغضّ النظر عن التفاصيل العارضة لقضية جوهرية في صراع روسيا مع الغرب، يمكن لمنظومة الهامش أن ترفع القبعة لرجل حال دون الاستعباد المفرط لدول العالم الثالث، كما حال دون أشكال سياسات التدخل والغزو العسكري الذي ما زال يمارس من جهة واحدة خارج كل أصول المحاسبة، لكن أي نوع من أولئك العبيد في المنظومة الثالثية الضائعة الذين يتحدثون لغة السيد الإمبريالي، ليعلقوا أزمة مستقبل السلام العالمي على الرجل نفسه الذي أنقذ العالم من حرب عالمية ثالثة وشيكة، ومن حالة الاستعباد الدولي لقطب وحيد تنكّر لحلفائه، والمثال الأبرز هو أوكرانيا التي أنزلتها قيادتها إلى مستوى متدنٍّ من المغامرة الاستراتيجية، فالناتو لا يحمي أحداً.
ما هي قيمة التحليل السياسي للأغمار والمجاهيل الذين صنعتهم التفاهة، ليساهموا في إدانة بوتين، وخلط الأوراق، كما لو أنّ القصة تتعلق بعوارض السياسات الاستهلاكية وليس بالعمق الاستراتيجي لدولة عظمى، نسي الناتو تحت طائلة الذُّهان، بأنّ روسيا قوة تملك أن تمحي أوروبا من الخريطة في أي محاولة للاعتداء. يمكن أن نذكّر أصحاب التحليل الفولكلوري للسياسة الدولية، بأنّ المستوى الذي تتحرك فيه روسيا، يفوق التهجي التّافه للمخيال السياسي للمرتزقة الذين ملؤوا الدنيا ضجيجاً خلال العشرية الأخيرة؛ فحين تتحرك روسيا وجب على التّفاهة أن تخرس، لأنّ التحدّي هنا له حسابات فوق بنفسجية لا يراها ضفادعة التحليل الكيدي.
الدرس المهم في هذه النازلة، هو أنّ التلويح الغربي له ارتدادات في أوراسيا بخلاف ما يحدث في الشرق الأوسط، فلقد أظهرت القيادة الأوكرانية بأنّها محمية صغيرة للناتو، لكن خيبة الأمل أعادت الأمور إلى وضعها الطبيعي، فأوكرانيا تمرين للمستقبل، لفرموزا وغيرها من القضايا العالقة، فالنظام العالمي يتغير بشكل لا رجعة فيه، وحتماً أوّل الخاسرين هم حلفاء الناتو، لأنّ التحدي الذي ينتظرهم هو في أوراسيا، وبأنّ مصير قواعد الاشتباك هناك، هي من ستحدد مستقبل الشرق الأوسط.
بدأت موجة عارمة من قلب الحقائق في منطقة تختلف حساباتها الاستراتيجية عن حسابات الدول الصغيرة العارضة في الكون الثالثي المقهور، وثمة عالم واسع يجد في موقف بوتين إنقاذاً للعالم من الخراب، هناك قسم يتحدثون لغة الاصطفاف الأبله.