بطولةٌ للمكان ولغةٌ بصريةٌ سينمائيةٌ بتوقيع “المُخرج” أيمن زيدان!

هي المشروعية إذاً، أُردِّدها مرّاتٍ أثناء كتابة هذا المقال، ليس لأنها تَرِدُ كإجابةٍ عن سؤالٍ وُجِّه إلى الفنان أيمن زيدان قبل اثنين وعشرين عاماً، بموازاة تجربته الإخراجية الأولى، فقط، بل لأنّ الاستناد إليها لطالما حَكَم المُنتج الفني والأدبي لصاحب التجربة المُتشعبة. هكذا جاءت وقفة زيدان مُتأخرة وراء الكاميرا إذا ما قِيست بعشرات الأدوار ممثلاً في التلفزيون والمسرح والسينما، ومن ثمَ قلَّ تعداد ما أخرجه تلفزيونياً بكثير عمّا قدمه في بقية المجالات.
تصدّى زيدان للإخراج مُتكئاً على رصيدٍ جماهيري كبير حققه كممثل، لكنّ ذلك، وفي الوقت نفسه، لم يُعفِه من التفكير في الغاية أو الطموح المُنتظَرين من هذه الخطوة، بالتأكيد المشروعية هنا قاعدة للانطلاق، بينما البحث في التجربة ككل، يضعنا أمام ما تحقق على صعيد الصورة والمضمون، والبداية كانت في مسلسل “ليل المسافرين”، عن نصٍ للكاتب قمر الزمان علوش، مستوحى من رواية “البؤساء” لفيكتور هيجو، أخلص له زيدان مع سعيه لتعميق ما هو مكتوب في الصورة بإضافة مشروع كتابةٍ بصرية، لتسهم في تسليط الضوء أكثر على مجموعة من الجزئيات والتفاصيل.
يُناقش العمل الفهم الفردي لمفاهيم كبرى كالعدالة والخير، وإمكانية استخدام القوانين للبطش والتعدي. في حكايته يُحكم بالسجن المؤبد على (شاكر الكوراني/عباس النوري)، عقاباً على جريمة لم يرتكبها، لكن حين تسمح له الفرصة بالهرب والتنكر ليصبح حاكماً، يسعى إلى تحقيق العدالة وفق رؤيته الخاصة.
صُوِّر “ليل المسافرين” في حوالي 135 موقعاً، بين الجبال والبحار والغابات، ورُمِمت بيوتٌ طينية وشيدت أخرى جديدة في إحدى القرى لجعلها مناسبة للفترة الزمنية التي يدور فيها المسلسل.
تعود الشراكة مع الكاتب علّوش في العمل الإخراجي الثاني لزيدان “طيور الشوك”، وفيه يحاول آغا المنطقة اغتصاب (دام الهنا/ سوزان نجم الدين)، التي تمضي حياتها محاولة الانتقام من محيطها، يُقدم العمل أيضاً إشارات إلى ما يمكن للثروة فعله في حال توافر معها المال كما يُقارن بين القيم في الشرق والغرب، من خلال شخصياتٍ أجنبية ساقها الظرف التاريخي إلى شرقنا. بعد هذا العمل، يبتعد زيدان عن الإخراج التلفزيوني ليعود عام 2011 مع نص للسيناريست حسن م. يوسف مأخوذ عن رواية للأديب الراحل حنا مينة تحت عنوان “ملح الحياة”.
يذهب المسلسل إلى الأيام الأخيرة للانتداب الفرنسي على سورية، مرحلة قلّما تمت مقاربةُ أحداثها السياسية بتمهل، ويتناول حكاية الأستاذ في ثانوية التجهيز (وهيب حمدي/جابر جوخدار)، يقتل جندياً فرنسياً خلال مظاهرةٍ ويحكم عليه بالنفي إلى غويانا الفرنسية، ومع تشابك الخيوط، يبدو قبولنا لقضايانا وصدقنا في الدفاع عنها، مقياساً للآخرين ممن لا تعنيهم بشكل مباشر. هنا أيضاً تكثر مواقع التصوير لتصل إلى 150 موقعاً.
أما آخر ما أخرجه زيدان للتلفزيون فهو مسلسل “أيام لا تنسى” عن نصٍ للكاتبة فايزة علي، اعتماداً على رواية “ألف شمس مشرقة” للكاتب خالد الحسيني، وفيه تنكمش الشخصيات على دواخلها وتستسلم لجبروت الآخر كثيراً، قبل أن تفكر في التمرد عليه، وحتى حين تحاول ذلك، ترفض الاقتراب من محاولة تحررها فعلياً، ضمن إطار أكبر يستعرض نُتفاً من اليوميات السورية في الأعوام الأخيرة، حيث تحضر مآلات الحدث، ويغيب الفعل المجرّد.
في المسلسلات الأربعة لزيدان، يتمتع المكان بسطوةٍ كبيرة، تغيب عنها الفبركة البصرية لصالح عناصر أقوى، أكثر ثباتاً على أرضية الفِرجة، بما في ذلك ابتكار بيئة محلية أو مقبولة من قبل المشاهد السوري في العملين المأخوذين عن روايتين فرنسية وأفغانية، بيد أن التعداد الكبير في مواقع التصوير وما يتخلله من بناء وديكورات وأزياء، يتكامل مع اشتغالٍ مضاعف على أداء الممثل، وكأنّ زيدان يستعير كاميرا السينما ليلتقط لُغتي الوجه والجسد عند الممثلين، بالطبع فرض هذا إيقاعاً بطيئاً رافق مشاهد كثيرة، ليصبح صبغةً في أعماله إلى حدٍ ما.
ينبش زيدان – بخبرة الممثل ومشروعية المخرج- خبايا، أغلبُ الظن أنها، مجهولة لدى كثيرين، ومدفونة عند آخرين، لكنه يعيد للدراما قدرتها على الإضاءة بشكل ممتعٍ على الجوانب الخبيئة في أعماق تركيبتنا الاجتماعية والبحث عن جذور مشكلاتنا فيها، لنقل إنه “اقتراحٌ بصري” يحمل توقيعه.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار