المثقف.. ما المثقف؟
دائماً ينتابني إحساس كبير بأنّني لا زلت أسبح قريباً من الضّفاف، ومتى كان بوسعي يا ترى أن أغوص بعقلي الذي لا زال يحيّرني، لأنّني أشعر بأنّني كلّما حاولت الاقتراب من هذا الإذعان التداولي، كلما افتقدت شيئاً من شموخي الطفولي الذي يسندني في براءة البحث عن الجديد، ليس فقط لأنّ الطفل هو عنوان الرشد، ما بعد مسيرة جَمَلِية وأسدية كما في استكلام نيتشه لزاردوشت، بل لأنّ ثمّة قضية قلّما التفت إليها الباحثون، وهي أنّ الطفل يدخل تجربة الحياة وهو لا يملك سوى هذا الشغف لكي يعرف، ولا يملك من وسائل أن يعرف إلاّ حسّاً مشتركاً يخوض به حقائق الواقع.
كم هو بطل ذلك الطفل قبل أن ينطق وتكون المُلاوغة كأداة تواصل، هل يملك الباحث أن يستعيد هذا الشعور قبل أن يدلف للبحث؟
لا زلت أتهيّب المفاهيم، أمسك بها في سوق الخردة بعد تعقيم العقل، ولا وسيلة لي سوى أن أستعيد عنفوان الطفل، وحده غير عابئ بالمفاهيم، فهي في نظره ظاهرة ككل الظواهر الأخرى التي سيصادفها في العالم الجديد.
أخشى أن يكون المفهوم ملوّثاً، إنّ الاستعمال والتداول للمفهوم يغير ملامحه، يضفي عليه من أمراض التمثلات وقصورها ونوباتها ما يجعله بخلاف الأصل. المفاهيم- النفايات (concepts-ordures). أنظر إلى حاويات للنفايات، حولها كلاب ضالّة، يا ساتر. أمامنا مشوار طويل جدّاً لكي نتمثل المفاهيم بأصالتها وعمقها.
كم نحتاج من مفهوم ونحن نخوض تجربة البحث عن حقائق الأشياء، وهل تمثُّلنا يعكس حقيقة الامتثال؟.. بتعبير آخر، هل تمثلنا للمفهوم بعد أن مرّ في نفق تداولي، سيعني الامتثال نفسه.. ألا توجد شروط وسياقات تجعل تمثّلاتنا ضرباً من امتثال مثقل بشروط الهامش، والقهر، والتبعية؟
أعتقد أنّ قصة المفاهيم ستظلّ قضية ملحّة، وهذا ما حدا بي لاقتراح فرع عن الأنثربولوجيا التطبيقية، أعني به أنثربولوجيا النخب، أي توسيع الدرس الأنثربولوجي لتصبح الأنتلجونسيا موضوعاً له بعد أن كانت الانتثربولوجيا الثقافية تعنى بالمجتمع العميق، وبعد أن باتت الأنثربولوجيا التطبيقية محاولة لفهم النشاط الإنساني ومحفّزاته، كمقدمة لإيجاد أرضية للفهم والتفاهم، أرضية للتنوع الثقافي ومكافحة الميز.
تهدف أنثربولوجيا النخب إلى إخضاع الثقافة العالمة نفسها للمقاربة الانثربولوجية، لتأويل أساطيرها الجديدة، تحليل محرماتها ورصد معابدها وبنياتها العميقة التي تخفيها التمثّلات المزيّفة. كيف يصبح المثقف معبّراً عن أحاسيس لقطها الحسّ المشترك قبل أن يكتسب خبرة المفاهيم؟..ما هي أوجه الشبه العميق بين كبير الباحثين في مركز مشبوه وبين بلطجي من أولاد حارتنا؟.. لماذا يغلب القياس علينا في كل أمر لا يتحقق معه الوسط المنطقي، لكننا لا نقيس حين يصبح القياس منطقيّاً؟
تمكننا أنثربولوجيا النخب من رصد أنواع المثقفين، مثقف البرج العاجي الذي لا يمكن أن يكون مثقفاً عاماً، والمثقف المرتزق الذي لن يكون مفكراً بتعبير توماس ميتفيتز، وقد تفيدنا أنثربولوجيا النخب من تتبع آثار التمثلات ودوافع الامتثالات ومستوياتها، إنّها قضية تعزز الضبط المعرفي والرّقابة وعدم الإفلات من العقاب إزاء أي تمثّل وامتثال، ألا تكون تلك واحدة من متطلّبات الثورة الإبستيمولوجية؟
تفيدنا أنثربولوجيا النخب في القدرة على التمييز بين المثقف العام والمثقف المرتزق، بين المثقف الحقيقي والمزيف، كما تفيدنا في إدراك تحوّلات “المثقفين” السوسيولوجية، وظاهرة الهروب النّمطي من المنغلق إلى المنفتح والعكس، من الأحياز الضيقة إلى الكونية والعكس، ثم رصد حالة الإيمائية في كل خطاب ينتجه “المثقف” المزيّف، وأنماط الصيد “الثقافي” بملامحها البدائية. كيف يصبح البدوي ليبرالياً.. كيف يصبح من لا يحسن الأكل بالشوكة منظراً في الذائقة الحضارية.. كيف يصبح الفكر مزايدة بينما هو قضية جادة؟
إنّ التقاليد البحثية اليوم باتت قاصرة عن مواكبة متطلبات العقل، بل هي بالأحرى وسيلة لنتاج حالة الباحث الزامبي، بأنياب حادة وعيون صفراء وآثار المفاهيم الدامية التي يمتصها بوحشية منكرة. تراجع العقل النقدي لصالح عقلانية القطيع، الشّق المتعلق بالانضباط والتبعية والتنميط، هل يستغني العقل عن شرط التحرر؟
ترى، ما معنى الفلسفة إن لم تكن هي الوسيلة الوحيدة التي تستطيع أن تقلب الطاولة على القطيع؟.. لا نعني بالقطيع الجمهور الذي يسلك على نمط يقرره الاجتماع وضروراته، بل أقصد بقطيع المثقفين الذين يتحدثون لغة واحدة، وينطلقون من خيال متشابه، والطريقة نفسها في التمثّل، لقد أصبحنا نلمس الفكر المنطلق لدى الجمهور أكثر من نخب أصبح الغالب عليها التفكير المبسط والخيال الفقير وتمثّلات مفهومية زائفة، لقد أخطؤوا المهمة التاريخية للفكر.
لقد توقف الزمن الثقافي، ليس لدينا سوى محاولات لإعادة إنتاج أفكار متقادمة، نصل متأخرين لنتعاطى مع أفكار اهتدى إليها أطفالنا منذ عقود، نلفت الانتباه كما لو أنّنا بالفعل اجترحنا طرائق في التفكير جديدة، بينما يدرك مؤرخ الأفكار، أنّ هناك من تأخرت مراهقتهم الثقافية، ليعيدوننا إلى الوراء باستمرار. أتساءل: لماذا يهرب المثقف المرتزق في الإنسانوية وما يتفرع عنها من لتيّا والتي، في نوع من الاستعمال الأيديولوجي الوظيفي، مع أنّ المعضلة تكاد تمسّ الفص الصدغي من شدّة التحايل على الدّماغ؟.. في هذا الاستعراض الإنشائي القاتل. وطبعاً لن يلتفت المبتدئ إلى هذه “التحشيشة” الفكروية، ولكنها لدى الخبير، هي واضحة وضوح المتلصّص في مستودع مكشوف.
مهمّة المثقف الثوري إذن اليوم هي تحرير العالم من صرعة المثقف المزيف، فكل وسائل التنكر متوفرة، والقطيع بات كبيراً إلى حدّ يصعب معه التمييز بين النطيحة وما أكل السبع، وعليه، فإنّ نتيجة هذا الاستهتار العام، هو منح قوام العقلانية للتفاهة والتبسيط والجهل المركّب. ثورة المثقف على الزّيف تبدأ من هنا، من وضع معمد للتطهير. هذا يؤكد مرة أخرى على معنى المثقف؟ والجواب اليوم هو: إن المثقف هو كائن لا يقبل الزّيف، ويمتلك أدوات تفكيك الزيف.
كاتب من المغرب