رائعة شكسبير في «عطيل» المغربي
عطيل في مسرحية شكسبير الكلاسيكية، قائد حرب موري، أي مغربي «أسمراني» – أخاله من الهلالية، أو «أسمر يا أسمراني» لعبد الحليم علي شبانة- الذي سيفوز بحب ديسدمونا، المرأة الأكثر جمالاً في البندقية، هذا الحبّ الذي أثار حقد ياغو، ليشكو عطيل إلى والد ديسدمونا المعروف برابانسيو، والذي سيرفع شكوى ضدّ عطيل إلى دوق البندقية، وسينتصر عطيل حين استطاع إثبات حبّه الكبير والصادق، وانهزم الأب الذي كان رافضا لهذا الحبّ.
هو مغربي، لأنه موري، ولأنه كما اتهمه والد عاشقته ساحر، ولأنه فارس وحيد -ليس في قطيع- لتقليد عند المغاربة هو الرحلة منذ غابر العصور، وهم سادة الخرائط والبحار منذ الشريف الإدريسي وابن بطوطة ورحّالة آخرين تعرفهم القفار والبلدان. كلها تعزز موريته، لأنّ من صدقت موريته صدقت فروسيته، وكان من المتحولين في الهيجاء، والمتحورين في الوغى؛ أي ممن لا يبقون على ما هم عليه من طبائع، بل يدخلون في تجربة حيّة للمشاركة، فيصبح وعيهم بأنفسهم يساوي وعيهم بأسديتهم، هو كذلك كما تفنّنت ريشة دي لاكروا في إبراز معالم تلك الفروسية لأسود الأطلس.
المغربي الموري الساحر، كما اتهمه والد ديسديمونا، بسحر ابنته حتى لم تعد ترى غيره، كان شجاعاً صادقاً ولكنه متطرّف في الحبّ والغيرة إلى أقصى الحدود. شيمة الفرسان أن لا يكونوا خليّة نائمة تطلّ برأسها في اللحظات السهلة أو يخرجون السكاكين حين تسقط البقرة، بل هم فرسان من المبتدأ حتى الخبر، وثأرهم تسير به الركبان.
نستلهم من مسرحية عطيل تلك، أنّ الفروسية والحبّ لا يفترقان، فغير الفرسان لا يفهمون في الحب، بالأحرى يقدّرونه، هم ليسوا غيارى بل أنانيون، وصوليون، انتهازيون.
ولمّا كان الوفاء من شيم الفرسان آنئذ أدركنا بأنّ الوفاء في الحب هو أيضاً من شيمهم.
في اعتقادي أنّ عطيل قصة غنية، وجب أن لا تقف هنا، بل علينا الاستدراك عليها بمزيد من الصور والعلامات. إنّها انتصار للحبّ في معمعان الحرب، بين الشرق والغرب، بين ثقافتين، ولونين وسأحكي لكم ما تبقى.
عطيل لم يبذل جهداً لإقناع ديسدمونا بحبه، بل تصرّف كواحد من الفرسان، وهذا يكفي؛ ففي الحب يصبح الإقناع دجلاً، الفرسان لا يتربّصون، لا يحتالون، ولا يؤثرون حروب النميمة كالحريم؛ هم فقط يعبرون عن أحاسيسهم في صمت وأحياناً في ثورة عارمة.
في هذا المشهد التناقضي، حيث حرب الثقافات والألوان والأجناس، يمكن للحب أن يلعب الكثير في لفت الانتباه إلى المشترك الإنساني العظيم الذي تخفيه الحروب والأنانيات.
لم يحاول عطيل أن يقنع ديسدمونا، ولكنها رأت، وقلت: لا يحتاج الحب إلى برهان، لأنّه علم شهوديّ محض، وما زاد هو كذب. الفرسان لا يبوحون، ولكنهم في الوقت نفسه يعكسون أحاسيسهم في حضورهم.
اقترنت الفروسية بالصّدق، والفرسان لا يلوذون بالخدعة حتى في الحرب التي هي خدعة، فكيف بالسلام. هل يحتاج الفرسان إلى لفّ ودوران.. من يا ترى يملك أن يرغمهم على ذلك؟.. اقترنت الفروسية بالصدق في المواطن، ومن لا يصدق في البواطن لا يصدق في المواطن. فانظر كيف يحب عطيل كي تدرك من أي جغرافيا يكون، ومن أي سُلالة للفرسان يكون.
مذهب الفرسان في العشق لا يُقاس بمذاهب العوام، هو مذهب يقوم على قواعد صارمة، الصدق أوّلها والوفاء ثانيها والعدل ثالثها والإحسان رابعها والشوق خامسها والسّمو سادسها والغيرة سابعها والغلوّ ثامنها والمغامرة تاسعها والألفة عاشرها.
من لم تجتمع فيه تلك الخصال، فلن يكون من سلالة الحبّ الكبير والعشق العظيم، وهو في صغير مذاهبها، غير مثقل بآثارها، غير محترق بنارها. مذاهب في الحبّ لا يحملها بيت ولا يحتفي بها شعر.
عطيل من ناحية أخرى ليس قضية حبّ وغرام فحسب، بل تأويل عطيل يحيل إلى الوفاء للنبل وتسامي بالمعنى، هو كلّ وفاء تحمله الكلمات وتصدّقه تجارب الأفراد والأمم. هي قصة استقامة على درب المعقول، وعلى طريق المروءة، ونبذ الظّلم والعدوان.. الفرسان لا يظلمون بقدر ما يفعل الجبناء، والفرسان لا يطغون بقدر ما يفعل الضعفاء، والفرسان لا يراوغون بقدر ما يفعل المغالطون، والفرسان أهل مبارزة لا أهل نميمة، أهل مباشرة لا أهل طِعان.
شكراً لشكسبير، الذي لخّص المروءة في المورو، حتى كادت تكون من مشتقاتها، وطبعاً، ليس كل المورو، فدائماً هناك اللّتيا والتي، ولكن يخطئ من لا يدرك فرسانهم أو يتناسى أسودهم أو يواري مجدهم بحيص بيص من المزاعم.
كاتب من المغرب