على فنجان قهوة

غرّدت العصافير، وقال المذيع: هنا لندن، وعواصم أخرى، حينئذ، خَرُبَ الصُّبحُ الجميل، وبدأت السياسة تحبك على منوال الدّجل اليومي، أخباراً زائفة وأخرى صحيحة، لكنها مع وقف التنفيذ. نستنشق السياسة حتى أنستنا شم الورد.

إن كنت تعتقد أنّ السياسة هنا أو هناك وفيّة للمبدأ، فاعلم أنّك لا تصلح إلاّ أن تكون كومبارساً في فيلم هندي يروي قصّة حفلة تنكّرية طالت كثيراً، لكنّها هذه المرة وخلافاً للمألوف، وجوه حيوانية بأقنعة بشرية، هنا كلّ شيء يكون مستقرّاً ما دام التّواهم مسترسلاً.

ألا يعلم الأغبياء أن المصلحة مع غيرهم ، إن كان ولابدّ من المصلحة، قد تكون أسهل وأنفع وأتمّ؟!

الحقد في السياسة له عواقب وخيمة، أقلّها تنامي الاحتقان وتطوّر غريزة الثّأر بمدلولها الجاهلي. وهذا ما يجري اليوم، يجب أن تكون عبداً حقيراً لتستمر السياسة، أن تكون طمّاعاً طِعِّيناً، لكي لا تخسر مصالحك الشخصية في تلك السياسات التي هي قناع لمصالح مشهودة.. حينما يُغدر بالفرسان، فانتظر الملحمة.

ما يهمّني في تشريح الوضعية السياسية العربية، ليس هو سرب الأحداث التي تمرّ بالليل والنهار من أمامنا، بل في تطوّح القراءات الهاويّة التي تحملها العواصف والرياح وتتمزّق على تقلّب الأحداث. ستكثر المفارقات، وسيبتلع الكثير ممن يعتقدون أنّ المفهومية السياسية هي الضجيج والصراخ، ألسنتهم الطّولى، لأنّ وقائع آتية على الأرض ستغير المشهد.

سورية اليوم تقوم بدورها كدولة، وهي تعرف جيداً من هم أصدقاؤها ومن هم خصومها، أتحدّث عن الدّول لا عن التنظيمات، سورية كما قلنا مراراً هي دولة عريقة، هي وحدها في هذا المارستان العربي التي لم تفقد لياقتها السياسية والدبلوماسية، على الرغم من مواجهتها لأكبر مؤامرة، وهي اليوم تواجه تحدّي الاندماج في إقليم عربي لطالما تبرّم منها أو خذلها أو تواطأ ضدّها؛ هناك حالة هروب باتجاه سورية، وهناك أيضاً مخاطر توريط سورية في مهازل عربية قائمة.

حين نقول إنّ سورية تعرف ما يجب أن تفعل، نقولها ونحن ندرك مفهوم الدولة والسياسة الدولتية (étatique) والدولية (internationale) ولا نقوله من باب المجاملة.

هناك حاجة عربية لسورية وليس العكس، ففي نظري تقدير العودة إلى جامعة الدول العربية يعود لسورية وحدها، بوصفه قراراً سيادياً، فقد يكون حدثاً مهمّاً، وقد يكون حدثاً استعراضياً يدخل في لعبة الكيد بين الدول، بعد انفراط التحالفات التقليدية، سورية أكبر من صفقة سياسوية وتصفية حسابات إقليمية، لكن ما هي مصلحة سورية؟ هذا ما ستقرره سورية نفسها التي حوّل الكثيرون أزمتها إلى فرصة للمتاجرة بالسياسة والبشر.

هل يستطيع العقل السياسي العربي أن يكبر قليلاً بأسئلته، يتجاوز نفسه، فثمة نماذج جديدة يمكن أن تشكّل أفقاً لمخرجات عهد عربي جديد، لكن ستكون تلك من أساطير الأوّلين، لأنّ العرب لم ينضجوا بعد، ولا زالت السياسة غريبة على تقاليدهم، فلا هم يريدون المبارزة ولا هم يريدون السياسة، لعلّ مدرسة المشاغبين هي من أهم روائع الكوميديا المصرية، تعكس وضعية البهاليل العرب.

لأنّ ذاكرة تجار الأزمات قصيرة، فهم لا يستحضرون تاريخ المواكبة التحليلية لعشرية الفوضى؛ لا يمكن أن نقول غير ما قلناه يومها، أي إنّنا سنواجه ارتدادات الموقف، وبأنّ إيقاف مسلسل العدوان على سورية قد يحرج بعض الدول وقد يتسبب في تساقط أخرى، وهناك من يستبق الزّمن، ويعدّل من قاموسه ويرى في المبادرة إلى تحسين العلاقات، حرجاً صغيراً اليوم، لكنه مكسب غداً حين تتزاحم العرب والعجم على أبواب دمشق في حرج كبير. فصل جديد من معارك اليوم ينتظر سورية.

مشكلة “الشرق الأوسط “أنه يعيش معضلة نهاية الحروب الكبرى، وهم يجهلون ما معنى هذا التحوّل الذي وصفه روبرت سميث بنهاية الحرب الكلاسيكية، وبرتراند بادي بتراجع قوة “القوة”.

فأمّا آثار نهاية الحرب الكلاسيكية، فهي بداية التفكير في عهد جديد من الحروب، ظهرت منها نماذج، أهمها الحرب السيبرانية ومعركة الوعي.

في هذه الحرب لا مكان للبهاليل، للصخب، والصراخ، والإنشاء، وحرب البيانات، ولا حتى لأساليب الطعن الكلاسيكي في الظهور، الحرب القادمة والتي بدأت أصلاً، هي حرب العقول، حرب صامتة، لكنّ صمتها مدوٍّ، لأنّه يصيب العقل، ويؤلم الذّكاء، ويجرح التقنية.

من ينتظر حرباً كلاسيكية فهو جزء من هذا الغباء المستشري في تقدير السياسة والحرب، المشكلة هي أنّ عدداً من الأوكار تربّت على أزمنة الحروب الكلاسيكية، فهي ستخسر الكثير في تجارة الأزمات.

ليس من مصلحة العالم أن يبقى على هذه المرحلة الانتقالية، فالجغرافيا السياسية تأبى الفراغ، وليس من مصلحة العالم أيضاً، أن يعود إلى سعار الحرب الباردة.

يتحدثون عن الصين كما لو أنها مثلهم ستفكر بالمغامرة بالحرب، لكن الصين وحدها تدرك معنى السياسة والاقتصاد، وفي خاصرتها فيرموزا التي تملك أن تضعها في جيبها في بضع ثوانٍ، لكنها فضّلت الخيار السياسي وراهنت على تقلّبات الأمد البعيد. وأمّا الإعلام، إعلامنا الذي يستمدّ تذاكيها من شروط العقل العربي نفسه، فهو يخوض معركة الوعي بالتّمنّي.

منذ عهد بعيد كنت أميّز بين الاستبداد والفاشية، ثمة من وجهة نظر منطقية علاقة بينهما، من نوع عموم وخصوص من وجه؛ الفاشيست لا يطاق، لا مجال للاختلاف، كل شيء ممنوع حتى ما في قلب الضمير، حتى همسك مع نفسك، يمكن في ظلّ الاستبداد أن تقول “لا” على استحياء، لكن في ظلّ الفاشست، حتى “نعم” على استحياء هي شبهة، من يخطئ الفرق بين الأمرين، سقط على مناخيره في تقدير الأمور.

كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار