في اليوم العالمي للفلسفة

ليتنا نستقبل اليوم العالمي للفلسفة استقبالنا لكل الأعياد، غير أنّ ثمّة فوارق سُلالية؛ فالأعياد هي فرصة لشحذ الاحتشاد، موعد للتجمهر والانبعاث الجماهيري، لكن الفلسفة هي في البدء موقف نخبة المولعين بالتّأمّلات والكاطيغورياس، أي ذلك الذي يبدو عند العوام بدهياً، وعند الفيلسوف مبعث تساؤل، ومنحدر نحو القلق.

هو عيد كما قررته اليونسكو (18 تشرين الثاني).. لكن ما معنى العيد عند القلقين، عيد بلا حشد؟ أليس حريّاً بنا القول، إنه يوم الانعتاق من الفلسفة، الحنين إلى الاحتفائية والاحتفالية؟

حتى الآن لم نخضع اليوم العالمي للفلسفة نفسه إلى سؤال: ما معنى مأسسة الفلسفة؟.. وقبل ذلك تجرّأت الأزمنة الحديثة على نبذ السكولاستيكية، وفعل انتظام القول الفلسفي في المحفوظات والأراجيز. لم نتساءل ما العلاقة بين اليونسكو والفلسفة.. وهل حقوق الإنسان هي موضوع كلّ الفلسفات أم بعض الفلسفات التي تلتقي مع اليونسكو في أهدافها؟.. أريد أن أتساءل بجدّ: هل تساءلنا إلى أي حدّ يمكن إعلان المصالحة بين نيتشه واليونسكو؟

لنترك الأسئلة المؤسسية، ونتساءل عن اليوم العالمي للفلسفة إن كنا سنتحدّث عن كرونولوجيا الزمن الفيزيائي وليس الفلسفي، ففي هذا العام ودّعنا بعضاً من الأسماء الفلسفية العربية، رحيل مفكّر عربي في قامة حسن حنفي، رحيل فيلسوف حكيم كالعلامة محمد تقي مصباح يزدي، رحيل فيلسوف الحداثة ومفكّك أزمنة الرداءة د. محمد سبيلا..

اليوم العالمي للفلسفة له حكاية أخرى، حيث لمّا نبرح زمان الوباء، وهو زمان بيولوجي أيضاً بقدر ما هو زمان فلسفي، لأنّه فرض تحدّياً على مسارات المفاهيم، واختطف من بيننا صديقاً عزيزاً هو الأستاذ محمد سبيلا، والذي قبل أن يغادر، أمسك بتلابيب الوباء وفكّكه فلسفياً، مفجّراً تساؤلات كبرى عن الجائحة، في آخر ما قدّمه بعنوان «في إمكان التفكير الفلسفي في الجائحة».

في اليوم العالمي للفلسفة نتذكّر مهاماً أخرى، لطالما تجاهلناها في زحمة الانهمام بما لا يلزم؛ دور الفيلسوف ومهمّته الملحة، في مقاومة كلّ أشكال الاستهتار بالمفاهيم، في زمن التّفاهة. لا أحد معنيّ بحماية المفاهيم غير الفيلسوف، هو إذن يوم يقترن بالدعوة إلى حماية الفلسفة من كل أشكال التخريب من الخارج، ومن كل أشكال التمييع من الدّاخل، إنه يوم حقيق بوضع إستراتيجيا للمقاومة الفلسفية ضدّ الرّداءة.

في اليوم العالمي للفلسفة، يتعين أن نسأل: ماذا في وسع الفلسفة أن تقدّم لمجتمعاتنا التي تواجه التفكك والانهيار؟.. سيقول الأغراب عن المهمّة التاريخية للفلسفة: نحن في غنى عن المثقّف، وهذا هو الطاعون الأفتك بالاجتماع، بل تقوم هذه الفكرة الغبية على جهل كبير، لاسيما وأنّ المثقف هو صانع مفاهيم السياسة وعلمها، وبأنّ السياسي عالة على ابتكارات المثقف والفيلسوف، حتى حينما يتسافل بالمفاهيم. بلى، إنّ مشاكلنا تنشأ وتستفحل نتيجة غياب الوعي، غياب التفكير، الاكتفاء بما تبسّط وانبسط في إدارة المعرفة. فلا زالت الأمّة أميّة، تراهن على الجُزاف.

في اليوم العالمي للفلسفة، يتعين المرافعة ضدّ من هرّب الأسئلة الكبرى للفلسفة واختزالها في دعاية أيديولوجية زائفة، ضدّ من سخّر الفلسفة للالتفاف على الفلسفة، ضدّ من جعل الفلسفة زهواً رخيصاً بالأفكار: فلاسفة مزيفون أي فلاسفة من دون فلسفة.

نتساءل اليوم وبإلحاح: ما هي المفاهيم التي دخلت معجمنا الفلسفي خلال السنوات السابقة.. بالأحرى السنة الماضية؟.. وكيف نحتفل بيوم عالمي للفلسفة ولم نساهم في هذا الكون الفلسفي بمفهوم واحد يٌشعرنا بأنّنا نستحق الاحتفال.. هل بات العرب عالة على الفلسفة؟

جزء من أزمة الفلسفة هو عالمي أيضاً، وقسم من تلك الأزمة هو عربي بامتياز. لا شيء لدينا له صلة بالفلسفة، لا نظامنا التربوي، لا سياساتنا ولا اقتصادنا، مشكلة الفلسفة مع نفسها ومشكلتها مع العالم.

لنتحدث سياسياً، فالعالم عاد إلى كارل سميث، إلى تلك المحاولة التي لطالما حوصرت بدعوى الاقتران بالنازية، مع أنّ قوى الحلفاء هي أكثر استلهاماً منه. المشكلة أنّ سميث دعا لمعرفة العدوّ، وفرق كبير بين معرفة العدوّ وبين صناعته. وأعتقد أنّ العالم اليوم أدرك بأنّه بات من الصعوبة وجود عدوّ نظراً لتشابك المصالح وطغيان البراغماتية السياسية والاقتصادية، وأمام تراجع فرص وجود العدوّ مع فارق القوة في علاقات دولية غير متكافئة، فإنّ التحول من معرفة العدو إلى صناعته، يؤكد بأنّ العالم الحرّ يحمل همّ صناعة العدوّ. إذا تجاهلنا الفلسفة، سنتحوّل إلى كومبارس شقيّ، إلى فئران الحقل. هل سنتهيّأ لعالم بات يضمحلّ بالتدريج، عالم بلا فلسفة؟

سأحاول أن أهضم فكرة موران عن أنّ التاريخ ليس ملازماً للبشرية، وهذا ما يؤكده تطورها عبر آلاف السنين دون أن يكون لها تاريخ، وما نرصده من تاريخ هو تاريخ الدول والحضارات والحروب؛ هل يا ترى يصحّ أن نتساءل حول الفجوات الكبرى لتاريخ الفلسفة.. هل توجد فلسفات لم يرصدها تاريخ الأفكار؟

أيّا كان الأمر، فأنا وفيّ للخاصية التي بها كنت إنساناً، فالإنسان كائن مفكّر وليس بالضرورة فيلسوفاً، الفكر هو من يصنع الفلسفة وهو من يطيح بها، الفلسفة واحدة من ابتكارات الفكر، وتبدأ المشكلة حينما يتراجع الفكر حتى في اللحظات التي تستنفذ فيها الفلسفة أغراضها، إنّ أزمة الفلسفة في نهاية المطاف، هي أزمة الفكر، أو بتعبير آخر هي أزمة الإنسان. إنّ الفكر هو جوهر الماهية الإنسانية، بينما الفلسفة هي عارضة ككل العوارض. هذا يمنح أفقاً جديداً للفكر، وثقة بالفكر، نحن إذن في حاجة إلى يوم عالمي للفكر، أليس كذلك؟

كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار