في «روح بالميرا».. شفيق اشتي يستحضر آثار البشر
بدأ التشكيلي شفيق اشتي مشواره مع الآثار في السبعينيات، مُتكئاً على الدكتوراه في فلسفة العلوم الفنية من أكاديمية بطرسبورغ الروسية، ومع إن ولاءه توزّع بين عدة اتجاهاتٍ في الرسم إلا أنه ظلّ ميّالاً للعناصر المعمارية، بما تُخفيه من أحداثٍ وسرديات، يصح أنها شواهد صدقٍ على أزمنةٍ مضت وأمكنةٍ مُثقلة بتبعات التاريخ، اشتغل عليها هذه المرة تحت عنوان «روح بالميرا» معرضه المُقام مؤخراً في خان أسعد باشا.
عام 1992 كان اشتي لا يزال منحازاً للواقعية، فرسم لوحتين للأعمدة في تدمر، يمكن للمتفرج تمييزهما من بين 80 عملاً، تطغى عليها التعبيرية بأبعادها الفلسفية والتكوينية، كما لو إنها إعادة تمثيلٍ لما شهدته المدينة الأثرية من صراعاتٍ وحروب، بدأت في الألفية الثانية قبل الميلاد على ما تقوله المراجع، إلى أن هاجمتها تنظيم «داعش» الإرهابي عام 2015 .
يعود اشتي إلى تلك التواريخ الدموية، المُثبتة والأسطورية، لينتقل بين الأجساد المتلاصقة، الخائفة والمترقبة، مرّاتٍ تبدو مأخوذة بفعلٍ ما، فتتوحد في انحنائها واستجدائها، وأحياناً تأخذ كلٌ منها حركة مختلفة، كأنها التقت فجأةً تحت سطوة المعتدي, وفي ذلك كلّه، يتلاشى الفرد بجسده الواحد، لتختلط الرؤوس والأطراف وتغيب الملامح الواضحة، ربما هي الكارثة حين تقع بكُليتها.
ومع التورية المقصودة للفردانية، يتخذ الصراع بعداً درامياً مسرحياً يتجاوز فكرة التحديد لمرحلة زمنية واضحة, يقول اشتي «الإنسان هو الملحمة، الحياة مسرح واللوحة أيضاً مسرح»، هكذا تغدو «بالميرا» كما فضّل أن يُسميها، روحاً أو طيفاً، يحضر في كل ما نعيشه، في المأساة والهجرة، في الرقص والهروب، كأنّ المسرح يتفاعل في لوحة، من دون أن ننسى مسرح تدمر الشاهد على الحياة والموت فيها.
يُوازي الفنان بين ما يحكيه البشر والأثر، يُؤمن أن الأوابد والأعمدة والأحجار لا تقل عاطفة عمّن يبنيها ويهدمها، لذلك يصعب القول بأن تفجيرها وسرقتها مجرّد اعتداء إرهابي، الأمر يتوقف عند قراءتها والقدرة على محاورتها وفهمها, هذا الفهم لعنصري العمل الفني، يرسمه اشتي بخفّةٍ وبساطة، أو على حد وصفه «عفوية صياد»، يُساير سرعة العين في التقاطها للتفاصيل وفي مرورها أيضاً من دون توقف مقابل ما تألفه.
تتزاحم الألوان بدرجاتها في أعمال الفنان، بعيداً عن البني الممتد في صحراء تدمر، لنرى الأحمر والأسود والأصفر ممزوجةً بخطوط مُنحنية، مطواعة، تتدفق كأنها تتوالد من تلقاء نفسها، لذا لا نشعر بغرابة حين نلمح حيوانات مفترسة أو أجزاءً مُقتطعة من قناطر حجرية أو تماثيل مبتورة الرؤوس تتداخل مع تشكيلاتٍ أخرى.
برغم ذلك، يقول شفيق أشتي: لستُ مأخوذاً بتصوير المأساة دائماً، أحاول العثور على نوافذ، إشراقات ما، يمكن عدّها حلولاً يرتاح لها المتفرج واللوحة، ربما هو الضوء المنبعث من عمق اللوحة أو القادم من إحدى زواياها، جاعلاً من الآلام فيها، حكاياتٍ لا بد من أن تكون لها نهاية سعيدة، يوماً ما.
تصوير- صالح علوان