على فنجان قهوة

جعل لوبولد سيدار سينغور من إفريقيا، قصيدة شعر.. عرف كيف يجعلها لوحة تئنّ تحت ريشة كلّ فنان يتقصّى استقامة اللّون.. عليك إذن بـ «وُلدت أسمر اللّون».. هناك يتتبع سيرة أسمر من الولادة حتى الممات، هو نفسه الأسمر على العهد، يولد أسمر اللون ويموت أسمر اللّون، لكن الأبيض يولد وردي اللون ويموت شاحب اللون، يعتريه المرض فيزرقّ وتلهبه الشمس فيحمرّ، وأحياناً فقط يكون أبيض اللون؛ يتساءل سينغور: من يا ترى من بيننا الملوّن؟

شاعر أدرك خليط الثقافات، النقاء العرقي في نظره هو الموت. وأيضاً هو أوّل رئيس دولة سيتنازل عن الحكم لكنه سيوصي بخلف له. حين تأتي الوصية من شاعر صادق المشاعر، من متعالي على السلطة، من زاهد، فهي العدالة، وكل بحسبه.

ينقلك سينغور إلى أنطولوجيا سمراء، إلى عالم يحتفي بشميم الأرض، بالأنين الأوّل لمن ساروا على قدمين، لمّا كانت اللّغة تحملها العجماوات في مشهد يلتقي فيه الأنين بصوت العصافير، هل جرّبنا أن نكون أوفياء للأصل؟..ليوبولد سيدار سينغور الشاعر الأفريقي الذي فرض أنطولوجياه على الثّقافة الفرنسية، ليؤكّد أنّ قوة الثّقافة تنتصر على اللغة والاستعمار.

***  اليوم سيتقرر تغيير التدابير الاحترازية ورفع حظر التجول اللّيلي، والسفر بين المدن، مع بقاء اعتماد جواز التلقيح أو شهادة الإعفاء. كانت الأوبئة بالأمس تحصد مجتمعات بكاملها، شأن الطواعين، غير أنّنا اليوم نقطع سنتين من مقاومة وباء اجتاح العالم بأسره. البشرية تهرب من الطواعين، لكنها تصنع الحروب وتبتكر أفتك الوسائل للتدمير، لم يتقرر بعد إن كنّا نريد الفناء أو الانتصار للحياة.

***  اليوم حاولت أن أتأمّل إشكالية الجريمة وفلسفتها، هل نتحدّث عن المجرم الفطري أم الاكتسابي، هل سنكون بيولوجيين أم سوسيولوجيين في فهم محفزات الجريمة وطبائع المجرمين. لكنني أعتقد أنّ فكرة المجرم الفطري تحتاج إلى مزيد من التّأمّل؛ لماذا تتراجع الجريمة في المجتمعات الشّمولية أو في المجتمعات التقليدية.. وفي مقابل ذلك ترتفع نسبة المجرمين الفطريين؟

إنّ الجريمة نابعة في كثير من الأحيان من دوافع نفسية واجتماعية، لكن المجرم الفطري مثله مثل غيره يعتمد مبدأ المخاطرة. فما يسميه فوكوياما بالمخاطرة التي يبرر بها «نهاية التاريخ» هو نفسه المبدأ الذي يحدد نهاية التاريخ في جدلية الإجرام، إنّنا حينما نقوّض مفهوم المخاطرة تتراجع الجريمة. هل سيكون ذلك دعوى لتشديد العقوبة؟ تلك حكاية أخرى لا يتحملها حديث على فنجان قهوة.

***  في السياسة، السياسة التي أتحاشاها، لأنّها باتت مجلبة للغمّ والهمّ، ترتسم ملامح تحوّلات في المنطقة، اليوم أرى مشهداً سورياً وسوريالياً في الوقت نفسه، لقاء بين القيادة السورية وأمير دولة من الخليج. سيقرأ كثيرون المشهد كعلامة على الانتصار السوري، وهذا تحصيل حاصل، فلقد أعلنّا عن هذا الانتصار منذ كان بعض قارئي الفنجان المثقوب لا زالوا حيارى، أو ربما مال بعضهم  إلى «الربيع».. بعضهم نسى ولكننا لا ننسى؛ لكنني أقرأ في ذلك علامة أخرى، هي رزانة الدّولة السورية، وذكاءها، دولة لم تبادلهم بالسوء منذ عشر سنوات، كافحت العدوان، ولم تنس يوماً أنّها دولة، ويجب أن تتصرف كدولة، رئيس مهذّب يستثمر اليوم في سجلّه النّقيّ، ولغته السياسية، هذا ما يعيدنا إلى عبارة: فيلسوف الممانعة. اليوم تنتصر الدبلوماسية السورية، داخلياً باجتماع قسد وخارجياً بخرق الحصار وحضور قوة الاعتدال والنظر للمستقبل؛ سورية لم تعتدِ عليهم، ومن اعتدى على سورية ثم جاء، فهو مكسب سوري، في إقليم أصبح عبارة عن مزرعة للتآمر والبلادة.

***  لا شيء يحدث في الأحياز السياسية إلاّ وسيكون له ارتداد إيجابي أو سلبي على سائر الإقليم. بعض قُرّاء السياسة لا زالوا يستبعدون حقائق الجغرافيا ويكتفون بحقائق السياسة؛ لكن ما هي حقيقة السياسة، وما معنى المبدأ في لغة السياسوي، لا سيما حين يكون ملوّناً؟

***  أتفادى تسامياً، الحديث فيما لا يقوى على سماعه المراهقين في مدرسة المشاغبين، في انتظار أن يكبروا أو يجود الزمن بما يكفي من المفارقات ليعلموا أنّهم خاطئين، ومعتدين، وغير أوفياء لا للحقيقة ولا للإنسان، كنت أحفظ الكثير من الأمثال في طفولتي الساخرة من العته، ومنها مثل فرنسي: «ليس جيداً قول كل حقيقة».. إن كنت لم أفهم مغزى ذلك المثل، فاليوم أفهمه جيداً. في الماضي كنت أعتقد أنّ الأمر له علاقة بالشجاعة، لكنني اليوم أدرك أنّ القضية لها علاقة بالمتلقّي. أحياناً وجب أن لا ننسى بأنّنا في عصر انقراض الوفاء كانقراض الديناصورات بالأمس.

***  ليس بالضرورة أنّ أهل مكة أدرى بشعابها، فالعبقرية العربية تؤكد كل يوم بأنّها تنتهك تراثها نفسه، فهي تعلن باستمرار نفسها أدرى بثقوب النمل الذي يسكن جبال غواتيمالا، وبأنّهم أدرى بشعاب مكّة والبلقان. ألا يوجد دستور لكبح جماح هذه المهزلة.. لماذا، فقط في مزرعة الغباء العربي، نميل إلى التي هي أسوأ؟

كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار