شجرة في السادسة والثلاثين
يُقال الكثير عن صبرها وتأقلمها وانحنائها مع الرياح إلا أن هذه “الدونية” المتوارية في وصف “الأشجار” ليست سوى وجهة نظرٍ قاصرة، للأسف، مارسها تشكيليّون من دون إحساسٍ بالذنب والتقصير. هؤلاء رسموا أشجاراً بلا أرواح، ظنّوا أن جذورها الممتدة في الأرض قيود، ونسوا أن أوراقها أيادٍ ممتدة نحو الأعلى، تخضّر وتصفّر وتسقط، ثم لا تلبث أن تعيد الكرّة مرات ومرات، ولا تنتهي الإساءة هنا، فأيُّ ظلمٍ يوازي التعاطي مع الشجرة كديكور، كما لو أنها “طربيزة”.. شيءٌ ما يملأ فراغاً، لا مشكلة في كونه أخضر اللون.
تتحايل الأشجار على حدودها بالتواطؤ مع أغصانها، فيحلو لها الميلان لتصبح جسراً بين ضفتين أو منحدرين، وتبالغ في الاستخفاف لتصبح سُلّماً أو كرسيّاً أو أرجوحة أو حتى بيتاً، سقفه وجدرانه وأرضيته أوراق وفروع وثمار، وربما يحلو لها اللحاق بكائنٍ ما فتذهب بكليتها نحو اليمين أو اليسار، تنفتح كما لو كانت ستطير وتنكمش كأنها تختفي، وفيما لو غضبت يوماً، تختلط غير عابئة بالنتيجة، هل ستبدو أقل جمالاً أو وضوحاً، هل ستبدو فوضوية كشابة لطالما استيقظت متأخرة؟، لا يعنيها شيءٌ من ذلك، غضبها أقوى من أن يلتفت أحدهم إليها أصلاً.
تُتقن الأشجار الهروب، ليس هذا بالعصي عليها، فهي تعرف كيف تحفر نفقاً، تمتد وتنمو وتقاتل إلى أن تصبح في مكان آخر تماماً، تمدُّ رأسها في أرض جديدة أو ربما قرب نبع ماء، أجل هي تحتاج زمناً طويلاً، تعرف ذلك منذ تغيّر لونها في يومٍ خريفي قديم، لذا قد يقودها الهروب إلى عالمٍ مختلف، وجوهٌ وأصوات لم تألفها، تبحث عن الراعي وأغنامه، عن أطفال يختبئون خلفها، عن خائف نام يوماً في ظلها، ولأنها لم تجدهم، عابوا عليها ذبولها، قالوا إنها لن تصبح يوماً شجرة كالتي في حيٍّ مجاور، كل ما في الأمر أنها تشعر بالغربة.
لن تُباليَّ الأشجار بهذه الاتهامات، ستنتظر أن يسند أحدهم ظهره إلى جذعها حتى يصبحا صديقين، وستضحك وتكبر وتحنو، هي ليست شيئاً في الزاوية، هي شابة في السادسة والثلاثين، والحياة أمامها، لتميل وتستقيم وتهرب.