لا تملك إلّا أن تبتسم بعذوبة عندما تصل إلى نهاية مرضية, أحياناً منطقية وأحياناً متخيلة لكنها في كل الأحوال تبعث على الرضا .. ولعل أجمل ما في المجموعة القصصية «قصص شبه منحرفة» للكاتب الدكتور محمد عامر المارديني أنه يحملك معه إلى عوالم القصة ومن دون أن تدري تشعر بالشغف وأنت تنتقل معه من إحساس إلى آخر وتترقب ماذا سيحدث بعد؟!.
المجموعة القصصية حديثة صادرة عن دار دلمون الجديدة عام 2021 .
وتحوي المجموعة 19 قصة من القطع المتوسط في 162 صفحة.
وأنت تقرأ القصص لا يغيب عن خاطرك تساؤل لطالما يخطر على كل من يعرف الكاتب فحين أطلق الأستاذ الدكتور محمد عامر المارديني مجموعته القصصية الأولى، شكّل الأمر مفاجأة لكثر ممن عاصروه خلال عقود من مهامه ومسؤولياته، فهو بالنسبة لهم الأستاذ الجامعي وعميد كلية الصيدلة ورئيس جامعة دمشق ووزير التعليم العالي الأسبق .. لكن ولادة ونشأة الدكتور المارديني في أسرة يعشق كافة أفرادها العلم والثقافة والأدب، وبلوغه سدة المؤسسة التعليمية العليا، كان مؤشراً على أنه لاشك يخفي في دواخله قارئاً وكاتباً- إن لم نقل أديباً.
الكاتب د. المارديني على ما يبدو استهواه الأدب الساخر فخاض فيه أولى تجاربه الأدبية ليقدم من خلاله نصوصاً قصصية بأسلوب يلتصق بالواقع وينطلق منه كضرورة لخدمة الإنسان وثقافته.
وأن تكون كاتباً ساخراً يعني بكل بساطة أنّكَ قادر على تناول الواقع بتفاصيلِه اليومية فتعرّي نواقصه وتذم عيوبه بأسلوب غير فج أو مباشر، وأن تشرح كثيراً من الأمور الجادة والمسائل الحساسة المؤثّرة بشكل ساخر.
أما القصة وفقاً للكاتب د. المارديني فهي على الأغلب حكايةٌ عاشها أو شهدها أو سمعها أو تخيلها الكاتب تكتب بلغة بسيطة وسهلة على القارئ وتعتمد على مفرداته اليومية المعاصرة وتبتعد عن الغموض ومبنيّة بطريقة سليمة وبتسلسلٍ منطقيٍّ للأحداث ورسم ماهر للشخصيات وتتمرد على الواقع بطريقة مبالغٍ فيها.
وعن الفرق بين كتابة القصة الساخرة عن الجادة لا يرى الكاتب فرقاً بين القصص إلا في إطار الرسالة المراد إيصالها للقارئ أو في الانطباع الذي تولّده لديه أثناء القراءة وبعد الانتهاء منها فإما أن يشعر بالسرور أو يحزن ويرغب بالبكاء ويعتقد د. المارديني أنه بإمكان الكاتب الساخر أن يجعل القارئ ينفجر ضاحكاً في أشد اللحظات مرارة.
وربما يجب أن تتوافر سمة السخرية لدى الكاتب نفسه كما يرى المارديني فقد يكون موهوباً جداً لكنه لا يستطيع الكتابة في هذا الأدب كما يجب أن يكون الكاتب قارئاً جيداً للكتّاب الساخرين الموجودين على الساحة الأدبية في بلاده وخارجها.
تبدو لنا المجموعة القصصية «قصص شبه منحرفة» أحياناً وكأنها مذكرات أو خواطر ذاتية لكننا لو تعمقنا قليلاً فسنجد أن هذه الخواطر أو المذكرات تأخذ منحىً شائقاً ولغة فائقة، ففي القصة الأولى (باي أنكل) يسرد الموقف وينهيه، ثم ينتقل بنا إلى موقف أو رأي آخر مختلف تماماً عن سابقه، فبعد انتهائه من سرد قصة مشاركته بمؤتمر نقابي أقيمت جلساته في منتجع سياحي يصور لنا كيف يقضي يومه الأخير الحر في هذا المنتجع الرائع عبر مغامرته للفت انتباه الحسناوات, والقفز إلى الماء قفزة سباح خبير لكنه سرعان ما يؤنب نفسه خاصة أن أحداً من الصبايا لم ينظر إليه أو يتعاطف معه يقول الكاتب: (تلمست فمي وأسناني بإصبعي لأكتشف فقدان إحدى ثنيتي العليا في هذه المغامرة الرعناء..لقد سقطت سني الملبسة كاملة في الماء نتيجة غطستي العنيفة… انتابني القلق.. وغطست باحثاً عن السن عمن يبحث عن لؤلؤة في محيط وعبثاً لا بارقة أمل في الأفق ..ولمعت في رأسي فكرة…) وهكذا على بقية المواقف.
إلا أن اللافت للنظر طريقة المؤلف بفلسفة الموقف أو الحدث، وهو وإن كان رأياً ذاتياً إلا أنه مثير ويدفع بك إلى لذة الكشف، فتعيد القراءة مرة ومرة حتى تخرج بنتيجة مرضية.
وقد شكلت القضايا والتساؤلات والتنقل المفاجئ بين الأحداث عنصراً أساسياً عند الكاتب، وبعثت تلك القصص الحركة والنشاط، كما برع القاص في تحريك شخوصها ببراعة ومرونة فائقة، ففي قصة عنوانها (حكم العدالة) يعتمد الكاتب على تقنية الحوار مع إحدى الطالبات التي لديها مشكلة لكن ليس مع الجامعة وإنما مع أحد الطلاب الذي أوقعها في شباكه ثم تركها لتفاجأ بأنه يدرس في كلية الطب أيضاً إلى جانب دراسته في كلية الصيدلة .. ورغم موقف عميد الكلية الأول بأنه غير مستعد لسماع قصص شخصية وإنما ما يتعلق بالدراسة إلا أن الطالبة تترك له قصاصة ورقية تلمح فيها بوجود احتيال كبير قام به الطالب الذي أغواها عبر دراسته في كلية الطب والصيدلة في آن واحد.. وهكذا تتداخل الأحداث لنصل في النهاية إلى حلّ اللغز: (توالت الأحداث بطريقة دراماتيكية إذ بعد أقل من ساعة تم القبض على الطبيب الخريج علاء تمهيداً للتحقيق معه في ملابسات وأسباب وجوده في كلية الصيدلة لأربع سنوات متتالية..)
وفي نهاية حديثنا عن مجموعة «قصص شبه منحرفة» كان بودنا المرور على قصص أخرى لكن نترك للقارئ أن يتمعن ويتفحص بنفسه وبعدها نحكم ونقرر.. ومهما يكن سنجد أنفسنا أمام خصوصية تشبه كاتبنا فقط وأي مقارنة مع أي جنس أو نوع أو شكل كتابي أدبي ستكون في غير محلها لأسباب عديدة.!