أزمة الصيد بين بريطانيا وفرنسا… جروح «بريكست» المفتوحة
أزمة.. وليست أزمة، هذا هو حال قضية الصيد بين بريطانيا وفرنسا التي لا تكاد تهدأ حتى تعود للاشتعال، كما كان حالها خلال أسبوع مضى، حيث وصلت الحرب الكلامية بين الجانبين ذروتها، لتشهد يوم أمس الثلاثاء بعض التهدئة. وهذه القضية متعلقة بحقوق ممارسة الصيد لدول الاتحاد الأوروبي، ومنها فرنسا (لمرحلة ما بعد اتفاق بريكست) في بحر المانش وبحر الشمال وجزر القنال خصوصاً جيرسي وجيرنسي.
لكن هذه الحقوق تتعثر وتتعرقل بصورة دائمة بسبب الكثير من التفاصيل التي استمرت عالقة، حيث أن الاتفاق التجاري الذي تم توقيعه بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا لتنظيم العلاقات والمعاملات التجارية بينهما بعد بريكست، تجاهل هذه التفاصيل، مكتفياً فقط بالاتفاق على الأطر العامة، وهذا الأمر يشمل كل القضايا وليس فقط قضية الصيد.. لذلك من المتوقع دائماً نشوب أزمات بين الجانبين، فيما لا يزال اتفاق «أوكوس» العسكري -الذي وقعته بريطانيا مع الولايات المتحدة وأستراليا منتصف أيلول الماضي- ملفاً ساخناً، خصوصاً مع فرنسا.
يوم حاسم
المراقبون ينتظرون انقضاء هذا اليوم، الأربعاء، ليفصلوا بشأن ما يجري. هل هو أزمة ستقود إلى ما لا تُحمد عقباه.. أم هو تصعيد محسوب لغايات سياسية حسب قراءات وسائل إعلام البلدين.
لماذا اليوم؟
لأن تهديدات الجانبين يُفترض أن تضع أوزارها اليوم. أولاً لناحية تهديد فرنسا بإجراءات عقابية شديدة ضد بريطانيا رداً على حرمان الصيادين الفرنسيين من الصيد في بحري المانش والشمال وجزر القنال، حيث ترفض لندن إعطاءهم التراخيص القانونية اللازمة لاستمرارهم في عمليات الصيد.
وكانت التهديدات الفرنسية وصلت إلى حد التلويح بقطع واردات الكهرباء عن بريطانيا، وهذه ليست بالمسألة البسيطة حيث إن 47 بالمئة من واردات الكهرباء البريطانية تأتي من فرنسا (ما سيضاعف من حدة أزمة الطاقة التي تضرب بريطانيا منذ أسابيع من دون أن يلوح حل لها في الأفق).. هذا إلى جانب تهديد فرنسا بحرمان الصيادين البريطانيين من دخول الموانئ الفرنسية لإفراغ حمولة قواربهم.
وأيضاً فرض عمليات تفتيش على كل البضائع الآتية من بريطانيا. حجة فرنسا في كل ذلك أن حقوق صياديها مكفولة بموجب اتفاق الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي «بريكست» وأن بريطانيا تخرق هذا الاتفاق ولا تحترم قواعده.
وكانت فرنسا أرجأت تنفيذ إجراءاتها العقابية حتى نهاية يوم أمس، فقط. وحسب تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فإن المناقشات بين الجانبين بخصوص هذه الأزمة استؤنفت بعد ظهر اليوم (أمس) على أساس مقترح جديد قدمه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون. وأضاف: سنرى ماذا إذا كانت الأمور ستتغير اليوم.
ثانياً، لناحية موقف بريطانيا في حال لم تفضِ المناقشات إلى تسوية النزاع. وكانت بريطانيا أعطت فرنسا مهلة (تنتهي اليوم) للتراجع عن تهديداتها وإلا ستكون عرضة لإجراءات قانونية لخرقها اتفاق بريكست، حيث إن بريطانيا ستتقدم بشكوى ضد باريس أمام بروكسل طلباً لتسوية النزاع بينهما على النحو المنصوص عليه في المادة 738 من قانون التحكيم التجاري (ضمن بريكست).
موقف بروكسل
لكن موقف بروكسل هنا، أي الاتحاد الأوروبي، لا يبدو واضحاً، فهو من جهة لا زال غاضباً من بريطانيا بعد عامين من المفاوضات المريرة معها بشأن بريكست، وهي مفاوضات لم تنتهِ بعد، فما زال ملف أيرلندا الشمالية والحد من الرقابة الجمركية عالقاً، هذا عدا عن الغضب الأوروبي العام من قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي، وعليه قد يكون النزاع البريطاني الفرنسي فرصة أمام الأوروبيين للانتقام، عبر مساندة فرنسا.
لكن، بالمقابل، هم يدركون أن هذه المساندة قد تكلفهم مزيداً من المشكلات مع بريطانيا، لذلك فقد يختار الاتحاد الأوروبي جانب المماطلة من جهة والوساطة من جهة ثانية، بمعنى أن بريطانيا لن تستفيد كثيراً من التوجه إلى بروكسل، خصوصاً أنها حتى الآن لا تقدم أسباباً مقنعة لحرمان الفرنسيين من الصيد في مياهها بعد أن وافقت على ذلك ضمن اتفاق بريكست.
هل هذا يعني أن فرنسا ستكسب؟
قبل الإجابة لا بد من الإشارة إلى أن أزمة حقوق الصيد بين بريطانيا وفرنسا ليست بالجديدة، بل بدأت بعد أيام قليلة من التوصل إلى اتفاق تجاري لتنظيم العلاقات والمعاملات التجارية (ما بعد بريكست) بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي نهاية العام الماضي 2020 وكان على رأس بنوده، بند الصيد في المياه الإقليمية البريطانية والسماح للصيادين الفرنسيين، وصيادي دول الاتحاد الأوروبي بالمجمل، بالوصول إليها، ولكن وفق حصص ومناطق متفق عليها، وكان الفرنسيون أكثر استخداماً من بين الأوروبيين لحصصهم، خصوصاً في مياه جزر جيرسي وجيرنسي، وهذا ما أزعج البريطانيين الذين ردوا بإزعاج الصيادين الفرنسيين وعرقلة أعمالهم، خصوصاً ما يتعلق بمنحهم تراخيص الصيد، فهي إما تتأخر بها أو أنها لا تصدرها كاملة، أي بالعدد المطلوب. حيث يفترض أن تصدر بريطانيا تراخيص صيد لمنطقة تمتد بين 6 إلى 12 ميلاً بحرياً، وأن تمنح تراخيص لـ120 سفينة، لكنها لا تفعل ذلك.
وهكذا تصاعدت الخلافات شهراً بعد شهر حتى وصلت إلى ذروتها الخميس الماضي عندما احتجزت فرنسا سفينة صيد بريطانية دخلت مياهها الإقليمية من دون ترخيص (عادت وأفرجت عنها في إطار تأجيل الإجراءات العقابية) فيما أصدرت تحذيراً شفهياً لسفينة أخرى.
وفي اليوم التالي تصاعد الخلاف ليدخل الصيادون على خطه، وحسب وسائل إعلام فرنسية فإن أكثر من 100 صياد فرنسي منعوا شاحنات محملة بالأسماك قادمة من بريطانيا من الدخول إلى مدينة بولون سور مير (شمال فرنسا).
بالعودة إلى سؤال إذا ما كانت فرنسا ستكسب في نهاية المطاف إذا ما رفعت بريطانيا القضية إلى التحكيم التجاري الأوروبي؟
الجواب: ليس بالضرورة.
من سيكسب؟
فعلياً لم يعد للمفوضية الأوروبية النفوذ ذاته على بريطانيا ما بعد بريكست، وبالتالي فهي قد لا تستطيع إلزام بريطانيا بقرارها التحكيمي إذا لم يعجبها، حتى لو كانت هي من طلب التحكيم.. أما لماذا طلبته فربما يعود ذلك لأسباب تتعلق بالمماطلة لكسب الوقت، أو لمزيد من مناكفة الفرنسيين حيث تقول صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية في عددها الصادر أمس الأول: « يبدو أن جونسون يبذل قصارى جهده لإبقاء جروح بريكست مفتوحة، فلا شيء يرضي مشجعيه في الصحف الشعبية أكثر من النزاع مع الفرنسيين، كما أنه يوفر وسيلة مفيدة لإبعاد الأنظار عن العجز وارتفاع التكاليف في الداخل».
تبسّط فايننشال تايمز الأزمة، بل هي لا تراها أزمة، وكذلك تفعل معظم وسائل الإعلام البريطانية (وبصورة أقل الفرنسية).. وربما هي كذلك، إذ إن فرنسا وبشكل غير متوقع أعلنت تأجيل تنفيذ إجراءاتها العقابية، لتفرج عن السفينة البريطانية، مشيرة إلى مقترح بريطاني جديد بخصوص تسوية النزاع.
أغلب المراقبين تفاءلوا بالخطوات الفرنسية معتبرين أنها قد تكون بداية انفراج، خصوصاً مع توقف لغة التهديد والإنذارات المتبادلة، إضافة إلى اللهجة التصالحية التي تحدث بها الجانبان مؤخراً، لكن المراقبين، بالمقابل، يتجاهلون عدة نقاط أهمها:
– أن فرنسا أجلت إجراءاتها العقابية فقط حتى نهاية يوم أمس الثلاثاء، أي أقل من 24 ساعة، لتنظر ما الذي سيتغير في الموقف البريطاني، وهذا ما قاله ماكرون حرفياً.
– أن أياً من فرنسا أو بريطانيا، لم تعلن مضمون المقترح البريطاني، وما الذي يمكن أن يتغير بين يوم وليلة، وينزع فتيل النزاع.
– أن هذه الأزمة مستمرة منذ حوالي العام، لا تكاد تشهد قليلاً من التهدئة حتى تعود للتصاعد، وفي كل مرة كان هناك مقترحات، وفي كل مرة يجري تأجيل انفجار النزاع في اللحظة الأخيرة بتراجع أحد الطرفين… وهكذا. فهل هذا ما سيحدث هذه المرة أيضاً.
ربما نعم، وربما لا.
ماذا بعد التأجيل؟
قد تكون الإجابة الحاسمة اليوم الأربعاء كما هو مذكور بداية، أو غداً الخميس على أبعد تقدير.
مع ترجيح التأجيل، باعتبار أن انفجار النزاع لا يبدو في مصلحة ماكرون وجونسون اللذين يعانيان الكثير من الأزمات الداخلية التي انعكست تدنياً مستمراً في شعبيتهما. لذلك هما مضطران إلى التراجع والتهدئة، ولكن هذا لا يعني، بأي حال، أن النزاع سيختفي، وأن احتمالات اندلاعه مجدداً ستضعُف.