علاقة القيم بأنماط الحروب

دعوة للعودة إلى زمن الفرسان

إن كان ولا بدّ من الحسرة على زمن الفرسان، فعلى التحوّلات الشيطانية في تقنية الحرب الحديثة؛ تقنية ساهمت في جلب ضررين: أحدهما أنّها تفتك بالإنسان والأشياء، وتقضي على أرواح كثيرة في وقت وجيز، وتخلف أضراراً حتى بعد إحراز الانتصار. فلقد ظلّ الانتصار هو هو، والهزيمة هي هي، لكن الفرق بين الأمس واليوم، هو أنّ الانتصار أو الهزيمة تحدث بأقل تكلفة في الأرواح، بخلاف اليوم. وثانيهما، أنّ الحرب الحديثة قضت على قيم الفروسية، وجعلت الحرب تقنية أكثر مما هي فعل الفروسية. التحول في نمط الحرب كان نكبة في تاريخ الفرسان، حيث باتت الحرب صناعة، وتراجعت تقاليد الفرسان التي كان السيف والمباشرة يلعبان فيها دوراً كبيراً.
كانت الخدعة في الحروب الكلاسيكية ثانوية، لكن الخدعة في الحرب الحديثة هي عماد الحرب نفسها. ومثل هذا النمط يكرس نزعة الخداع والجبن وينعكس على ضمير المحارب، حيث النمط الحديث من الحروب يقوم على الخداع والـ«كاموفلاج» والتبييت والتربص، أساليب من كانوا في الحروب الكلاسيكية القديمة يشكلون الشريحة الأضعف، لأنّ الفرسان كانوا يخوضون معركة المواجهة ويحتكون بالخصم ويبارزون العدو. وكان ذلك الفعل يترك آثاراً في ضمير المحارب؛ لهذا كانت الفروسية تلخص قيم المروءة، لكن لا شيء من هذا في ضمير المحارب المعاصر، فهو غير معني بقيم المروءة والصدق في المواطن وما يعكسه من قيم الفرسان الخالدة.
في النمط الحربي القديم، لم يكن الفرسان بحاجة إلى تحريف الحقائق، بتعبير أوضح، لا تلتقي المغالطة مع الفروسية، وحتى قبل بروز ظاهرة وزير الدعاية النازي في الحرب العالمية الثانية بول جوزيف غوبلز، لم يشهد العالم صناعة الكذب حدّ الذّهان، وهو ما ورثه خصومه من الحلفاء أنفسهم، حيث ظهرت الدعاية المواكبة للحرب، وهي تقوم على الكذب المطلق. وللتذكير فقط، فإن غوبلز، هذا المحترف في صناعة الكذب، لم يكن ليُقبل في صفوف الجيش خلال الحرب العالمية الأولى نظراً لرجله المسطحة(Flat feet) ولكن الدور الذي لعبه في الحرب العالمية الثانية، فاق ما تقوم به كتائب كبرى في الجبهات.
لم يعد الكذب في إدارة الحرب أمراً مهمّاً في الحروب الحديثة فحسب، بل بات ضرورة، لكن كلما اقتربنا من الأنظمة الفاشستية كلّما زاد منسوب الدعاية الكاذبة. وهذه الدعاية الكاذبة هي بالأحرى صناعة تزداد بفعل التربية والتوجيه إلى حالة هستيريا جماعية. وسيضاف ذلك إلى جملة العوامل التي تجعل المحارب في الحروب الحديثة في حكم الجبان مقارنة بالحروب القديمة.
وقد يكون من الأهمية بمكان، على المنهجية المتبعة اليوم للدفاع عن البيئة الطبيعية والبيئة الرمزية والقيمية للمجتمع، الدعوة للعودة إلى النمط القديم من الحروب؛ وتعميم سياسة خفض الصواريخ الباليستية العملاقة والحد من انتشار السلاح النووي إلى الدعوة للحدّ من هوس التسلح الحديث والعودة إلى زمن الفرسان.
إنّ هذه العودة ستجعل الحرب صناعة صعبة وفي الوقت نفسه ستجعلها تتحقق بأضرار قليلة وقيم أكبر، بينما ستظل الحرب قائمة، وسيستمر جدل الهزيمة والانتصار. هي ليست دعوة للقضاء على الحرب، بل هي دعوة لتخليقها، لكن ما ستجنيه البشرية من هذا النمط من الحروب، هو الحفاظ على القيم الإنسانية والمعنى الخالد لأخلاقيات الفرسان. والكل يدرك أنّ السلاح الحديث ما أن ظهر حتى اختفى من الوجود شيء اسمه قيمة الشجاعة، بل لقد بات الجبان يملك أن يحقق ما لم يكن بالإمكان تحقيقه إلاّ بالشجاعة.
لم تعد هناك مساحة تفصل بين الفرسان والجبناء، فضغط على الزناد يكفي لأن ينهي كائن جبان كتيبة من الفرسان. وهذا أيضاً يعتبر خرقاً للعدالة الحربية، حتى أنّه غابت تقاليد المبارزة، ومتعة المواجهة، تلك التي تجعل المحارب يعود مهزوماً ولكن في أسوأ حال، برصيد من القيم التي تحرسها جراحه. ثمة على الأقل شكل من التكامل والتواصل في مجال الحرب وفق النمط القديم، ثمة مشترك بين الفرسان في الجبهتين، وكلاهما يساهم في تشكيل لوحة المعارك الساحرة، كلاهما شريك في حراسة قيم الفرسان.
حتى القوى الظلامية التي تمجّد في بطولات القدامى، تختبئ اليوم خلف التقنية الحديثة التي ابتكرها عقل جبان يريد حرباً بلا مخاطرة وبصفر ضحايا. ومثل هذا النمط من الحرب فيه انتهاك ليس لإيثيقا الحرب فحسب(ايثيقا:فلسفة أخلاقية) بل هو انتهاك لإستثيقا الحرب أيضاً (استثيقا: فن معرفة وإدراك الحرب) وهو ما يجعل الحرب الحديثة تفتك بالإنسان والأشياء والقيم والمعنى. إنّ الأنماط الحديثة للحرب هي بالفعل أكثر وحشية وتدميراً للقيم الإنسانية وأكثر قدرة على تيسير سبل الغدر والسيطرة بعنف التقنية لا بقوة الفرسان.

لقد استبشر الجبناء في زمن الحروب الحديثة خيراً، وذلك كلما تطورت التقنية كلما ازدادت سعادة الرعاديد والجبناء، وانتصرت أخلاقهم وتغلبت وانتشرت كالوباء. ومقابل ذلك، ما زال الفرسان يعيشون خيبات الأمل، ويشعرون بأنّ الحروب الحديثة ليست حروبهم، وبأنّها حروب قوّضت المفهوم الفروسي للمواجهة.
أضافت الحروب الحديثة على فظاعتها المادية فظاعات أخلاقية تضرّ بالضمير ومفهوم الصدق. وهي مضرة اليوم بقدر الضرر الذي تخلفه المصانع ذات التلويث العالي للبيئة. فالحرب اليوم هي خطر على البيئة وعلى الضمير، وهذا كاف لقيام دعوة عالمية للعودة إلى أنماط الحروب القديمة، العودة إلى زمن الفرسان.
إنّ غياب العدالة الحربية، تمنح فرصة للمقاومين لجبروت التقنية.. تمنحهم فضل الفرسان، أولئك الذين يعملون بشهامة لأمر أبعد من مجرد انتصار على عدوّ، إنّه انتصار على التقنية الجبانة لحروب اليوم، انتصار على جبن الحرب الحديثة، وانتقام لزمن الفرسان. ومع كل ذلك تظل القضية الكبرى، أنه لا حاجة للمغالطة والزيف في معارك الفرسان؛ الفرسان لا يحتاجون إلى تقويض منطق الأشياء لخوض معركة التّحدّي، فالزّيف والمغالطة علامة على انحطاط قيم الفرسان.
كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار