العقل والثورة ومعضلة الرشد
يتعيّن الحذر من غياب الانسجام بين العقل والثورة، فالفكاك بينهما يعزز حقيقة أنّ فكرة التقدم هي مدينة للعقل لا للحدث الثوروي، لاسيما إذا كان محض انتفاض غير معزّز بأيديولوجيا حقيقية.
ماذا نقصد بأيديولوجيا حقيقية هنا؟
طبعاً لا أقصد كل فكرة استنهاضية منقوصة، لا توفّر في الوقت نفسه استنهاض العقل بدل الاكتفاء باستنهاض الغريزة. وإن اعتبرنا العقل غريزة، فهو نوع خاصّ لا يتنزل منزلة الرغبات، ولعلها غريزة السمو التي قلّما تثار إلاّ بفعل تاريخي كبير، ومن هو حقيق بإثارة دفائن العقول.
اشتغل غوستاف لوبون (طبيب ومؤرخ فرنسي) على سيكولوجيا الدوافع والعدوى الجماعية في مجال الفكر والأيديولوجيات الزائفة.. جزء من الحوادث التي ساعدت غوستاف لوبون على بناء نظرية كاملة حول لاعقلانية الحشد الاجتماعي، هو مآلات الحراكات التي شهدتها أوروبا وساهمت في تأخير فعالية العقل، كما عززت الفوضى. ما أعنيه هنا بالأيديولوجيا الحقيقية، هو تلك التي تستنهض العقل وتستخرج دفائنه. هنا تصبح الأيديولوجيا في خدمة العقل، وهذا وحده يضمن استقامتها؛ إنها الأيديولوجيا الحميدة.
الجواب الكانطي على سؤال “ما الأنوار؟”(Qu’est-ce que les Lumières)، الذي طرحه القس يوهان تسولنر، جواب بديهي، إنّه الخروج من حالة القصور إلى حالة الرّشد. لا يمكن أن يتحقق التنوير من دون الخروج من حالة القصور والوصاية (l’état de tutelle) إلى حالة النّضج. وهذه الحالة الجديدة ليست معطاة لمجرد الانتفاض من دون شرط الحرية، من هنا تبرّم كانط من الثورة، خشية أن لا ندرك بأنّ المصير إلى التنوير هو حالة شعور دافق بالحرية، ولا حرية لجاهل كما ينقل ألان فينكيلكروت (فيلسوف فرنسي) في هزيمة الفكر، توصيفاً ونقلاً لسادة الأنوار.
كانط لم يكن ليعلق على سؤال التنوير على الثورات الحاشدة والفجائية التي لا يحرّكها العقل، لا سيما والمصداق هنا أعظم، حيث ثورات تحركها تحكّمات جيوبوليتيكية في الغالب، تعزز قصور الفاعلين أمام وصاية المتحكمين الكبار.
بناء عليه، وجب القول، إنّ المهام التي تعقب الثورات في التاريخ، هي أكبر من الثورة نفسها، ألا وهو إذكاء العقل وإخراجه من حالة القصور، وهذا يتطلب شجاعة قصوى. وللقصور تجلّيات في ما نقول وفي ما نعمل. إنّ انسداد آفاق الذكاء وتكرار المفاهيم الرّثة والسقوط في أوحال التآمريات، شروط كافية لجعل الثورجية قابلة للاستغلال، وعادة ما يقعون ضحية استغلال قوى تاريخية مزيفة، من سرّاق الثورات أنفسهم.
اليوم لا تكلّف الإمبريالية نفسها كثير عناء، فهي تلعب في البيت الداخلي للأمم التي لم يتحقق فيها فعل الخروج من القصور إلى النّضج. هم يقفون على التحليل النفسي للذُّهان المستحكم لدى تلك المجتمعات، واقفون على تناقضاتها وميولها وهشاشتها، إنّهم يستطيعون أن ينوّموهم لقرون أخرى وفي الوقت نفسه يشعرونهم بأنهم أبطال ويتصرفون بذكاء. إنّهم منذ لورانس العرب ونظرائه، يدركون ما معنى أن تفكّر بالغريزة لا بالعقل، أن تكون غبيّاً ثورجياً.
كان ولا يزال يهمّني التطور الذهني للثورات، وكيف يفكّر الثورجي بمعزل عن الوعي التاريخي، كيف تلتقي الرغبة في الانتفاض بالميل إلى تسطيح الحقائق، بينما لم يعد اليوم المجال يسمح للخطأ، لأنّ الثورجية هي مقتل الثورات وآفتها.
لماذا يأتي الفكر الثوري أقلّ من مستوى الحدث.. لماذا تظهر في دائرة الثورجية نابتة الشرود والتضليل والزّيف.. لماذا يُعاد إنتاج الزيف بلغة ثورجية، بينما تضعنا إبستيمولوجيا المقارنة أمام نقيضين وظيفيين ينتجان الزيف نفسه.. لماذا تستعيد نوازع السمسرة والنّفاق والوصولية إنتاج نفسها بلغة الثورة والتحرر، في هذا المسار الملتبس؟
بتعبير أوضح: لماذا في لحظة ما، يفكّر الثورجيون مثل الرجعيين تماماً، ويحملون الاستعدادات والميول والأطماع نفسها؟
تنتظر الأمّة مهام أخرى، هي الخروج من هذا التبسيط القاتل الذي بات يهيمن على جميع القوى والأحزاب والفاعلين، مهام يقف على رأسها الحاجة إلى إعادة الجواب على جملة من الأسئلة، على رأسها: ماذا يعني الأنوار؟.. إعلان الحرب على الجهل وعلى القصور. إنّ ما نراه حتى الآن خليط من الرشد والقصور، في الحد الأدنى من التقدير، غياب الرّشد، والعطل الذي يجعل هذه الأمّة لها القابلية للاستغلال في دورات إمبريالية جديدة، وكأنّنا وجدنا في هذه الربوع لكي نعيش على سبيل الجهل، وطبعاً جهلنا من النمط المركّب، لأننا حتى اليوم نجهل أننا نجهل.