بقاء الأسد في السلطة.. ماذا يعني؟

هناك من يفضّل أن يقرأ المشهد خارج نتائج صناديق الاقتراع، القابلية المذهلة لرفض كلّ شيء سوري حتى لو شهدت به الانتخابات الأخيرة التي أظهرت حجم المعارضة الهزيل، بعد أن أرادت عبثاً أن تلتفّ على مكر التّاريخ بتمكين من «ناتو» الذي يعيش هذه الأيام تحدّيات صعبة داخل بيته الدّاخلي. لكن ما معنى أن يعتبر إبراهيم قالن -وهو أهم مستشار لأردوغان – في تصريح لـ«دير شبيغل» بأنّ بقاء الأسد بات حتمية لا يمكن تغييرها؟

كان الأمر يتطلّب عشر سنوات من التّآمر والتخطيط لإحداث انقلاب في سورية ضدّ رئيس منتخب، في نوع من الاستهتار بالدولة السورية وسيادتها وحرمتها الدستورية. أدارت سورية المعركة التي هي في الحقيقة معركة تختزل صراعاً عالمياً تتوقف عليه مخرجات النظام العالمي الجديد.

لقد اعتقدوا أنّ سورية دولة هشّة، لكنها أظهرت أنّها أقوى دولة في الشرق الأوسط من حيث الصمود والإصرار على المبدأ.

خاضت سورية معركة المصير، ضمن تدبير محكم لحلفاء اختارتهم بعناية، لأنّها كانت تدرك التحولات الخطيرة والمحتملة والعاصفة بالمنطقة. هذه المعركة لم تكن بسيطة، فشطر منها كان حرباً عسكرية استعملت فيها كلّ الأسلحة الفتاكة، وشطر منها هي معركة وعي، انتصرت فيها سورية، وهزمت كلّ النظريات التي اكتسبت لها قوة تفسيرية وهمية في سياق «ربيع عربي» -هكذا سمّي في ليل- كنظرية جين شارب التي تحولت من نظرية اللاعنف إلى نظرية بأنياب تقطر دماً.

صمد الشعب السوري صموداً أسطورياً، وأمّا حفنة من العملاء، فهم لا يغيرون التاريخ ولهم نظائر في كل الأمم متى واجهت التحدّي. وحينما أتحدث عن صمود الشعب، فيكفي أنّه أنتج من رحمه جيشاً قدم أروع التضحيات، بشهداء من رحيق الشباب المختوم جسدوا أجمل قيم الوفاء، كما يكفي هذا الشعب الذي أنتج قيادة حقيقية أدارت الصراع برباطة جأش وفروسية ووعي كبير.

الشعب وجيشه وقيادته شكّلوا معاً، معادلة صعبة في أخطر سياق تاريخي يسبق قيام نظام عالمي جديد، لعبت فيه سورية ما تستحقّ به أن تكون دولة قوية مؤثّرة ولاعباً إقليمياً ودولياً كبيراً.

أن تؤكد صناديق الاقتراع على بقاء الأسد على رأس الدولة، هو حدث ثوريّ عبّرت فيه الديمقراطية نفسها عن إرادة شعب اختار أنجب أبناء سورية، وهي تعني هنا أمرين:

-إنّ بقاء الأسد يعني استمرار الضامن لوحدة سورية وملهم صمودها.

-الوفاء لمن قاد سورية في ذروة التحدّي وأقام في خطّ الدفاع الأوّل.

كان السؤال الحقيقي هو: كيف لا يكون الأسد هو عنوان الانتصار السوري بعد أن كان عنوان معركة طويلة الأمد؟.. وأمّا لماذا سورية، بالنسبة لي شخصياً، وما معنى استمرار الأسد في قيادة سورية لبرّ الأمان، فهو التّالي:

– إنّ سورية هي الدولة العربية التي أخلصت للميثاق القومي العربي، فهي دفعت ثمناً غالياً من أجل حماية الصّف العربي، ودفعت الثمن باهظاً لقاء التزامها القومي وصفاء رؤيتها العروبية. سورية وحدها طيلة المعركة كانت تدرك مواطن القصور في التدبير واجتهدت لكي تتطور أكثر على الرغم من الحصار الشديد التي خضعت له بسبب التزاماتها المبدئية، ولقد رفضوا كلّ مبادراتها الإصلاحية، لأنّ هدفهم كان تحطيم الدولة والكيان.

– قدمت سورية للعرب الكثير، ولم تجعل أي قضية أخرى تعكّر صفو الميثاق العربي، إنّها تتمتّع باستقامة أيديولوجيا وكانت مُدركة أنّ الوضعية الهشة للوطن العربي ستكون وبالاً على أقطاره، فجعلت من البعد القومي عمقاً إستراتيجياً لأقطاره، ولكن عبثاً، لأنّ القطرنة هيمنت، وشاعت التجزئة وتراجع مبدأ التضامن العربي.

لقد قاتلت سورية مع حلفائها التقليديين، ولا أحد من الدول العربية كان في مستوى التحدي السوري، فمنهم من انخرط في المؤامرة ومنهم من خذل سورية، ومنهم من أصابه الخرس كإبليس، عشر سنوات كان العرب فيها أشدّاء على سورية.

– سورية دولة بكل ما تعني الكلمة من معنى، دولة- أمّة بالمعنى الذي يُقرّه علم السياسة، إنّها مظهر للدولة كمؤسسة عقلانية بالمعنى الفويبيري للكلمة، وهي تجرّ خلفها تاريخاً طويلاً. ولقد قدمت لفلسطين الكثير، ولم تكتف بالكلام والمزايدة، وحدها سورية تملك أن تتحدث عن فلسطين، غير أن خصوم سورية ومن ينافقها تبرموا طويلاً، ولم يتحدثوا عن سورية بالوضوح المطلوب إلاّ بعد أن شعروا بأنّ الانتصار بات حتمياً لها، فجاؤوا من كلّ حدب وصوب ليشهدوا منافع لهم. لقد جعلت سورية القضية الفلسطينية على الرغم من كل المواجع هدفاً أسمى، وهي لم تجعل قضية أخرى أهمّ منها، ولم تخلق بوصلة غير تلك البوصلة، ولم تقرن بالقضية الفلسطينية أي قضية أخرى ولم تشغل العرب بأي شأن آخر غير القضية الفلسطينية، كما تفعل بعض الدول العربية التي غرقت في عقدة قابيل ولم تخرج منها، ولن تخرج منها حتى ينهار ما تبقى من معنى في الميثاق القومي.

– إنّ الحركة التصحيحية هي في حدّ ذاتها ثورة أكسبت سورية القدرة على احتلال مكانتها في العلاقات الدولية، بل يمكن القول إنّ صمود سورية اليوم وقدرتها الهائلة على المناورة في قلب النظام الدولي، يعود إلى الحركة التصحيحية. الذين أخطؤوا في تقدير هذه الثورة يجهلون مفهوم الدولة، أولئك أرادوا أن تكون سورية واحة للفوضوية، وهم كانوا يرسمون مستقبلاً غامضاً لها.

إنّ المعارضة الأجيرة التي كانت تخطط مع خصوم سورية لإسقاط “النّظام”، لم تكن تدرك، أو أنها تتجاهل بأنّ سقوط دولة مثل سورية لن يكون سقوطاً عادياً، بل لن يأتي بهم للسلطة وإن اشرأبّت إليها أعناقهم، بل إنّها مجازفة ولعب بالنار وخسران مفترض لدولة ما كان لها أن تقوم مجدداً فيما لو مكنهم تحقيق مخططهم.

– سورية دولة عقلانية تعرف كيف تدير علاقاتها الخارجية بكثير من المراقبة للغتها، ولقد بنت تقاليد دبلوماسية راقية قلّ أن تجد لها مثيلاً في ثورجية القرن العشرين والواحد والعشرين. إنّ الرئيس الأسد رئيس مثقف وصادق جداً، وهنا تكمن قوة الدولة، والأهم فيما لمسته من شخصيته أنّه ليس رئيساً حاقداً، إنّه يتحرّك بالمبدأ، ويتمتع بالمرونة الكافية، ولقد سبق في بدايات الأزمة أن طرحت سؤالاً على فخامته ضمن وفد عربي، حول ما كان يصدر من عبارات مشينة من بعض خصوم سورية آنذاك في حقّه شخصياً، فقال ما معناه: إنّنا حينما أخرجنا مواقفنا السياسية من الحسابات الشخصية، ارتحنا أكثر في مواقفنا وقراراتنا.

كان ذلك حقّاً درساً  ليس في السياسة فحسب، بل مؤشر على وجود دولة وتقاليد سياسية عريقة. سورية لم تجعل من السياسة فنّاً اختزالياً لمعرفة العدو كما نحا كارل سميث، فعدوها هو عدو موضوعي للعرب والسلام وغارق في التمييز العنصري والاحتلال. السياسة عند سورية هي فنّ معرفة الصديق، لكن سورية لم تحقد حتى على العرب الذين تآمروا عليها، بل انتقدت سياساتهم واعتبرتهم خاطئين.

إنّ الدّول الحاقدة والتي تحدد أعداء وهميين لن تدوم. ولأنّ سورية هي دولة الماضي والحاضر والمستقبل، فهي تتصرّف كدولة دائمة.

– سورية بعد هذه المعركة لن تكون هي سورية قبلها، لقد أخذت ما يكفي من التجارب، أدركت قيمة شعبها، وقيمة جيشها وقيمة قيادتها، إنّها موجة جديدة من التّرقّي، فبعد أن فشلت محاولات التفتيت وتقسيم سورية وإنهاكها وتمزيق نسيجها الاجتماعي، سيلتئم جرحها وسيدرك كل مكون فيها بأنّ سورية ليست لقمة سائغة في قصعة الأمم.

لقد خاضت سورية أطول وأشرس حرب عرفها التاريخ الحديث، لكن لا يوجد تناسب بين الفعل وردّ الفعل على المستوى النفسي، إنّها ليست دولة مريضة، بمعنى لا يمكن أن تخضع للتحليل النفسي للعلاقات الإقليمية والدولية.

– إنّ تتبع خطابات الرئيس الأسد منذ بداية الأزمة حتى اليوم وفي أصعب الظروف، هي الأكثر أدباً واحتراماً حتى لخصومه. فالحرب تثير الغضب في النفوس وتربك الخطاب، لكن الأسد كان يخاطب العقل أكثر من خصومه الذين كانوا لا يفعلون سوى تكرار المفردات نفسها حدّ اليأس.

وتستحق خطابات الأسد أن تدرج ضمن الآداب السلطانية في العصر الحديث، خطاب السّلم في زمن الحرب، خطاب رجل دولة في زمن الفوضى، خطاب قائد كان يستلهم من شعبه الصامد وجيشه المكافح كل معاني القوة، لقد خاض الأسد أخطر تحدٍّ، بشرف العقل.

– سورية من ناحية أخرى تعتزّ بسيادتها، وتمارسها بخبرة وحكمة، وهي أيضاً تدرك المعنى المرن للسيادة أكثر من أي بلد عربي يعاني العُصاب السياسي.

السوريون يمتلكون لغة السياسة من منابعها كعلم، ولهم تاريخ وهوية ليسوا فيها مدينين لأي قوة غاشمة استعمرتهم ما عدا من تثاقف موضوعي وحتمي هو من باب غنائم الاحتلال.

هم أعادوا ترميم كل ما فاتهم وأعادوا هيكلة هويتهم السوسيو- ثقافية على أسس تربية قومية حقيقية، هي من جعل الميثاق القومي وهم من مؤسسيه، يتنزّل لديهم منزلة المبدأ لا المزايدة.

إنّ تضامننا مع سورية نابع من معرفتنا القديمة باستقامتها الأيديولوجية ونزاهتها القومية ودماثتها العروبية، إنّها واضحة فيما تقول، وتستطيع أن تقنع العالم بنبل الفكرة التي تقوم عليها الدولة السورية باعتبارها دولة ممانعة على أساس السيادة والعدالة والتّاريخ وصناديق الاقتراع.

ليس تضامننا معها نابع من باب «حشر مع الناس عيد» فلسنا في هذا متزلفين ولا متملّقين ولا بطرين ولاعبين على الحبال ولا طامعين ولامترددين.. بل هو المبدأ والوفاء للبلد الذي لمست فيه كلّ الدماثة العربية الواقعية، بلد اكتشفت فيه وحده ما معنى أن أكون عربياً في وقت قال فيه مظفر النواب: «وغدا الميثاق القومي بدون شوارب!».

كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار