منذ 48 عاماً، وتحديداً منذ يوم الـ 6 من تشرين الأول 1973.. حتى اليوم الأربعاء 6 تشرين الأول 2021، الذكرى السنوية لحرب تشرين التحريرية، لم يمر عام واحد من دون أن تكون هذه الحرب حاضرة عربياً وإقليمياً وحتى دولياً.
حاضرة بنتائجها وبما يُكشف من خفاياها، حاضرة في كل تطورات المنطقة التي تلت، وصولاً إلى اعتبارها «نقطة التحول» التي بنت عليها حركات المقاومة، لمواصلة النضال ضد العدو الإسرائيلي، وإلحاق الهزيمة به في أكثر من موقعة ومعركة منذ عقدي السبعينيات والثمانينيات، حيث سعى العدو الإسرائيلي إلى دفن هزيمته في حرب تشرين التحريرية عبر استهداف سورية مرات عدة، وفشل في كل مرة.
لقد سعى كيان العدو لاستهداف العرب (والهدف غير المعلن كان سورية) حيث قام بالاعتداء على لبنان وحصار عاصمته بيروت في صيف عام 1982، وذلك في ذروة مؤامرة الحرب الأهلية التي كان لبنان يعيشها، وكان هدفها أيضاً سورية.. ولكن الجيش العربي السوري كان بالمرصاد حاضراً للمواجهة، وخاض دفاعاً عن عروبة لبنان معارك شرف وبطولة، ويذكر قادة العدو تلك المعارك وجسارة وبسالة الجيش العربي السوري في غير موقعة في لبنان وألحق بالعدو الإسرائيلي هزائم جديدة.
وعلى الدرب نفسه سارت المقاومة الوطنية اللبنانية بدعم سوري كامل ولم تترك هذا العدو يهنأ باحتلال الأرض، فامتلكت المقاومة المبادرة والرد والمواجهة، واستطاعت استقطاب دعم إقليمي واسع لها، لتحقق انتصارين مدويين على العدو الإسرائيلي في عامي 2000 و 2006، مستلهمة من دروس وعبر حرب تشرين منطلقاً ومساراً، ليس دفاعاً عن سورية أو فلسطين أو لبنان، بل عن كل الأمة، أياً كان وضعها حالياً، ومهما اختلفت وانقسمت في مواقفها، وفي الرؤى المستقبلية وفي قضية المصير المشترك..
لنسأل أيضاً:
ألم تأتِ حرب تشرين التحريرية عام 1973 وسط وضع عربي مشابه، كان يعتريه الوهن والإحباط والضعف والنكسات المتلاحقة أمام العدو الإسرائيلي؟
ألم تكن الأمة على امتدادها فريسة أوهام أن ذلك الوضع قدر محتوم لا يمكن تغييره، وأن لا قِبل لها برد اعتداءات وجرائم الكيان الإسرائيلي فكيف بمواجهته.. والانتصار عليه؟
ألم تأت حرب تشرين التحريرية حيث كانت “إسرائيل” على قناعة مطلقة بأنها الأقوى وجيشها لا يُقهر، وأنها ألحقت بالعرب من الهزائم بما لن تقم لهم قائمة من بعدها؟
«تشرين».. النصر إرادة
هذه الأسئلة استمرت حاضرة لدى الكيان الإسرائيلي وداعميه، لم تغب في أي ذكرى، وفي كل حدث وتطور تشهده المنطقة، كان المحللون الإسرائيليون وفي الغرب يعودون إلى حرب تشرين التحريرية التي قلبت المعادلات وغيرت موازين القوة وأثبتت أن النصر إرادة وأن النصر إنسان ينتصر لوطنه ويضحي من أجله بالدم والروح.
تلك الأسئلة ربما هي اليوم أكثر قوة وحضوراً.. أليست “إسرائيل” اليوم على قناعة مشابهة لما كانت عليه عام 1973 بأن العرب على حالة الضعف والانهزام نفسها بعد عقد من جحيم «الربيع العربي» المستمر في ويلاته وكوارثه حتى بات يُقال إن الأمة لن يوحدها من بعده أي رابط، لا بالعمل ولا بالتضامن ولا بالمصير المشترك.. حتى المخاطر المشتركة والعدو الواحد لن يوحدها مرة أخرى.. سيكون لكل دولة عدوها ومعركتها في الداخل ومع الخارج.
أكثر من ذلك، لن تجد دولة عربية واحدة تستطيع المبادرة بالرد أو المواجهة، فكيف بإعلان حرب كحرب تشرين التحريرية.
أيضاً، أكثر من ذلك.. إذا ما أعلنت دولة عربية الحرب على “إسرائيل” كما حرب تشرين التحريرية، فإنها ستجد من الدول العربية نفسها من سيقف ضدها. وحسب ما يعتقده العدو الإسرائيلي ومعه الولايات المتحدة، فإن هذا الوضع الذي وصلت إليه الأمة العربية أسوأ بأضعاف مضاعفة عما كان عليه حالها في سنوات ما قبل حرب تشرين التحريرية 1973 وبالتالي فإن لا حرب مماثلة ستقوم.
ولكن هل يستطيع العدو الإسرائيلي الاسترخاء والاطمئنان من دون أن يكون درس حرب تشرين ماثلاً، أليس محور المقاومة قادراً، اليوم، على إعلان حرب مماثلة لحرب تشرين التحريرية والانتصار فيها بغض النظر عن حال الأمة واختلاف مواقفها وانقسام أهدافها وقضاياها، أليس هذا المحور هو من يتمثل حرب تشرين التحريرية منطلقاً ومساراً وإيماناً بالقدرة على النصر حتى لو أعلنها منفرداً؟
الأجوبة تأتي على لسان العدو نفسه، ولسان حليفه الأميركي الذي خطط لأن يقلب المنطقة كلها رأساً على عقب في سبيل أن تكون حرب تشرين التحريرية 1973 آخر الحروب العربية ضد العدو الإسرائيلي، لكن الجواب كان يأتيه على الدوام بأنها ليست آخر الحروب.. وكان الجواب الأكيد والراسخ في عامي 2000 و 2006، لتأتي بعدهما مؤامرة الربيع العربي، لكن هذه المؤامرة لم تزعزع أسس ذلك الجواب، ليستمر العدو الإسرائيلي عاجزاً عن الاسترخاء والاطمئنان.. بل إن هذا العدو وحليفه الأميركي في كل ما ارتكباه من حروب وإرهاب ضد سورية، وبحق الأمة وشعوبها، خلال العقود الأربعة الماضية، كانا يرسخان حرب تشرين التحريرية بصورة أكبر في التاريخ والوعي العربي، ويعززانها لدى الشعوب العربية وأجيالها المتعاقبة بأنها معركة شرف ومصير، وبأنها السبيل لاستعادة الحقوق والحفاظ على الأوطان عزيزة منيعة بوجه الأعداء والمتآمرين الطامعين بأرضها وثرواتها.
وبالتالي أياً كان ما يعتقده العدو بأنه حقق أهدافه، خصوصاً من خلال مؤامرة “الربيع العربي”، بإبعاد الأجيال العربية عن أوطانها وقضاياها وعن بعضها البعض، فإنه في النهاية سيدرك أوهامه، وسيتأكد من أنه فعل العكس، لأن الوطن قادر في كل مرة على استعادة أبنائه وجمعهم معاً في معارك التحرير والبناء.. هذه ثابتة تاريخية وطنية إنسانية أصيلة.
في اليوم المجيد
في اليوم الـ6 من تشرين الأول 1973 أي يوم إعلان الحرب ضد العدو الإسرائيلي، توجه القائد المؤسس حافظ الأسد بكلمته إلى كل الأمة، جنوداً وشعوباً وقيادات، وإلى كل العالم، بأن هذه الحرب هي حرب وطن، وحرب قضية، وحرب دفاع، وحرب شرف وعزة، وحرب الإيمان بالله وبالنفس.. وهي حرب كل عربي بوجه العدوان والطغيان «ودعاة الحروب الذين لا تردعهم إلا الشعوب المؤمنة بحقها والكفاح في سبيل حريتها ووجودها».. «بعزيمة صلبة وتصميم قاطع على أن يكون النصر حليفنا فيها».. لأننا «أصحاب حق وأصحاب قضية عادلة، والله ينصر من كان على حق وكان عن حقه ذائداً مدافعاً».
وفي اليوم العاشر لحرب تشرين التحريرية (15/10/1973) كانت كلمة القائد المؤسس حافظ الأسد حول المعارك وبطولاتها، وما حققته في الميدان وعلى المستوى المعنوي.
ففي هذه الحرب «صححنا مفاهيم وأفكاراً كثيرة خاطئة كادت أن تترسخ في العالم الخارجي عن أمتنا، وأعدنا إلى الإنسان العربي ثقته بنفسه بعد أن ضمدنا جراح كرامته المطعونة وأثبتنا للعدو وللعالم كله أن شعبنا ليس تلك اللقمة السائغة التي توهم العدو أنه يسهل عليه ابتلاعها».. «أثبتنا أن الموت الزؤام ينتظر كل من يحاول أن يذلّ شعبنا أو يدنس أي شبر من أرضنا».
وفي تاريخ 26/6/1974 عندما رفع القائد المؤسس حافظ الأسد العلم السوري خفاقاً في سماء القنيطرة المحررة، أكد أن هذا التحرير أثبت أن «إرادة الشعب لا يمكن أن تقهر وأن الوطن فوق كل شيء» وأن «الجندي المقاتل، وليس السلاح، هو من يقرر نتيجة الحرب».. «وكما كانت ملاحم تشرين والجولان قاسية، فستكون ملاحم المستقبل، بل يجب أن تكون أشد عنفاً وأكثر قسوة، فالمعركة معركة مصير، والعدو طامع بأرضنا، وأرضنا مقدسة، ولن نسمح بتدنيسها، وقد نذرنا أنفسنا وكل ما نملك للدفاع عنها».
وتكررت الملاحم
وتكررت الملاحم البطولية وكانت حرب تشرين التحريرية ملهماً ومنطلقاً ومساراً، لذلك لا يمكن أن تمر أي ذكرى لهذه الحرب من دون أن تستعيد سورية (والأمة) أمجادها وبطولاتها، ومن دون أن يستعيد العدو الإسرائيلي هزيمته فيها، ويعترف في كل مرة بالإرادة السورية (والعربية) التي هزمته، وببسالة الجندي السوري (والعربي) التي حطمت أسطورة «جيشه الذي لا يقهر».
في كل ذكرى تمتلئ صحف العدو الإسرائيلي بالمقالات والدراسات عن هزيمته في حرب تشرين التحريرية، ليكشف في كل ذكرى المزيد من خفاياها وأسرارها واعترافات المسؤولين الإسرائيليين آنذاك عن الرعب الذي شعروا به وهم يرون الجيشين العربيين السوري والمصري يعلنان الحرب معاً ويتقدمان في الميدان معاً، ويحطمان خطوط العدو (الدفاعية) معاً.. لقد عاش العدو الإسرائيلي الهزيمة بكل معانيها، هكذا اعترفت غولدا مائير رئيسة وزراء العدو آنذاك في كتابها «اعترافات غولدا مائير» حيث خصصت الفصل الـ14 منه لحرب تشرين التحريرية وعنونته بـ«الهزيمة» واصفة هذه الحرب بـ«الكارثة الساحقة» و«الكابوس» الذي عاشته بنفسها، والذي سيظل معها ويرافقها على الدوام.
هاتان الكلمتان الأخيرتان، أي «على الدوام» لم ترافقا غولدا مائير وحدها فقط بل كل المسؤولين الإسرائيليين الذين عاشوا الهزيمة مثلها، وكل المسؤولين الإسرائيليين الذين تعاقبوا من بعدها وبعدهم حتى يومنا هذا.. هذا ما يقولونه بأنفسهم وما تقوله وسائل إعلامهم.
الإيمان بالوطن
وفي كل ذكرى لحرب تشرين التحريرية يحق لسورية أن تزهو وتفتخر وهي التي ما زالت تخوض ملاحم البطولة والصمود، وتحقق الانتصارات فيها، بالعزيمة نفسها والإيمان نفسه بالله والنفس والوطن، وبأنها صاحبة حق، وصاحبة قضية عادلة، وأن «الله ينصر من كان على حق وكان عن حقه ذائداً مدافعاً».