مدارات شمال- إفريقية.. حركات سويدية أم تحضيرات للحرب؟
فقدت شمال إفريقيا البوصلة، ولكنها غنّت كثيراً وآنست بأخطائها القاتلة منذ نصف قرن من البلهارسيا السياسية.
القضية مزمنة، والداء عضال، والأطباء الوهميون هم بمثابة منتحلي صفة، والضجيج يعمّ المنطقة.. ليس إلاّ الضجيج.
كل ما ألاحظه أنّ عصائب السياسات نجحوا في إذكاء الكراهية، وهم سيستدرجون المنطقة لمزيد من الأحقاد والحروب. من المسؤول؟ هنا ينكسر القلم. سيكون من البساطة بمكان البحث عن العلل الأولى في الجمل المبسطة لأشكال البروباغاندا التي تنتجها الرعونة السياسية، لا أحد يستطيع أن يقول الحقيقة في شمال إفريقيا التي تعيش ذروة العصبية. لا أحد يدري أي خطورة للخطاب حين يستحكم في النفوس. لم يعد هناك من المحاذير ما يكفي، فالمنطقة دخلت في لعبة: كل الضربات ممكنة، حتى قواعد الاشتباك تغيرت، ويبدو أن تراكمات طويلة الأمد بدأت تفرز نتائج مدمّرة.
العرب، لم يعودوا يملكون ميثاقاً أخلاقياً، ولا شيء من أحلامهم باتت مُقنعة في ظلّ هذه العصبية التي تنتمي إلى العصر الجاهلي لما قبل ميلاد الدولة-الأمّة، فالسعي نحو الحرب هو غريزة مناقضة للسياسة ناهيك عن بؤس الدبلوماسية وغياب المساعي الحميدة. من السهولة تحريك غريزة عنف الخطاب، ما أسهل هذه الحرفة في وسائطنا اللاّمسؤولة، لكن الرّوية السياسية لم تعد ممكنة، هناك فقط إرادة التخريب والتدمير.
هل تعلم ما معنى نشوب حرب في المنطقة؟.. إنها كارثة بكل ما تعني الكلمة من معنى، كارثة لا يمكن تصور مداها التدميري، ولن تقف في حدود شمال إفريقيا بل ستتعداه إلى الشرق الأوسط وكل إفريقيا. إنّها حرب تخفي ميراثاً من الحقد والثّأر، والقتال هنا ليس لعبة بل سيكون مقدمة لخراب العمران البشري. والشعوب وحدها من سيدفع تكلفة الحرب.
كل خطاب أو تحليل هو هنا حديث طرشان، ولا ينفع، حتى الاصطفاف لن ينفع، لأن العالم مليء بالاصطفافات، والغرب سيقدم أسلحة للجميع، والكيانات الغبية ستحارب كديكة حتى النهاية، وستنال وسام الاستعمار الجديد، ضريبة العناد والسياسات الرعناء والتلاعب بحقائق التاريخ.
ما ألاحظه أن المنطقة جاهزة للحرب، فالعلاقات لم تكن هنا جدّية، بل هي علاقات «طاش ما طاش» وكم يذهلني من يتحدث عن النبل والقيم والوضوح في أمر ملتبس كهذا، لا أحب العبيد حين يتحدثون عن الحقيقة. هل يا ترى يمكن للحقد أن يحلّ الأزمات العاصفة بالدول.. وهل العدوان اللفظي كفيل بأن ينهي الحكاية؟
لا أعلق أهمية على الغوغاء، لا أنتظر خيراً من زعران التحليل السياسي، إنّ الحقيقة هنا بخلاف من يظنون أنها واضحة، هي حقيقة تتطلب شجاعة قصوى خارج قوالب ومقالب الخطاب المنتوف الذي نطالعه كل يوم. إنّ المنطقة تواجه بلاء حقيقياً، بلاء وجودياً، فالحماقة ضاربة الأطناب، والذّهان عميق، والجمود الذي حكم المنطقة وحال دون تأسيس الاتحاد المغاربي والالتئام لم يعد يُطاق. انتظارات كثيرة هي أشبه ما تكون بأحلام يقظة، إنّ أولويات الشعوب في التضامن والتنمية والتقدم سقطت لصالح أولويات أخرى، لا أحد يسأل ما هي أولوياتنا في هذه البيداء المتشقلبة والمنتهكة للميثاق العربي.
إن أسوأ ما يثيرني هو رعونة الاصطفافات التي أتابعها بحسرة كما لو كنت أمام شريط سينمائي لشارلي شابلن. تعالم، وتذاكي، وفتل عضلات، والحقيقة هي أنّ عنوان هذا «البوليميك» هو الجهل المركّب.
يجهل الفضوليون ميكانيكا الاستفزاز، وبأنّها تقرب البعيد وتبعد القريب، وبأنّها حِطابة ليل لا تقدم ولا تؤخر سوى أنّها تورث العمى وتُذهب البصيرة. من السهل أن نصهل كأحصنة سائبة، لكن حين يجد الجد ينتهي العويل، لا شيء يحفز لتحمل المسؤولية، ومن ينفخ كالحرباء في النار، هو جزء من حرب قادمة إذا لم يأخذ العقلاء المبادرة.
هناك من ينتظر رأينا في سيرورة الأحداث، في جغرافيا الجنون، ولكننا تحدثنا بما فيه الكفاية، حين ذكرنا بأن راحة بيولوجية في الشرق الأوسط سيكون لها ارتدادات في شمال إفريقي جاهز لاستقبال ارتدادات الأزمة، لأنه إقليم اتبع منذ نصف قرن سياسة بلهاء. ولأننا أيضاً تحدثنا بما فيه الكفاية بأنّ للسياسات دور في كل هذه المآلات، وبأنّ مكر التاريخ يتحرك بعمق وقسوة، وبأنّ لعبة الأمم الضالة في المنطقة على وشك الانتهاء بضربات الجزاء.
حينما نختار عدوّاً مفتعلاً ووهمياً، ونعتبر أن تلك هي السياسة حتى لا أقول فن السياسة الذي يضعنا أمام العدو الحقيقي: انظر كارل سميث، فحتما العلاقات الدولية والإقليمية تأبى الفراغ، وسيكون العدو الحقيقي هو من يحتل هذا الفراغ. إنّ المنطقة تحصد نتائج بلاهتها السياسية، وعلى من مضى في هذه اللعبة أن يتحمل مسؤولية هذا الانهيار.
كانت العروبة مسكناً جيوسياسياً جديراً بإنهاء بلاهاتنا السياسية، كان اتحاد المغاربة أيضا جديراً بذلك، ولكن الجميع تنكر للميثاق القومي، حتى بات ميثاقاً بلا شوارب (في تعبير شعري لمظفر النواب).إذا لم نستيقظ من سباتنا، فهي الحرب، لأنّ البقاء على هذا الجمود واللعب بأوراق محروقة هو ضرب من الغباء تشكو منه المنطقة.
الرحم، والجوار، والمصلحة كلها تأبى الحرب، والمزيد من هدر مقدرات شعوب في مُطاحنات حرمت مجتمعات المنطقة من التقدم والقوة والاهتمام بما هو أهمّ وأنفع. العقلاء والمثقفون يدركون جيداً تاريخاً من الهدر والعصبية والعناد والخيارات الخاطئة التي حكمت علاقات بلدين لم يستفيدا من بعضهما في زمن الاستقلال قدر ما استفادا من بعضهما في زمن الكفاح ضد الاستعمار برسم الذاكرة المشتركة، غير أنّ الواقع هو أنّ الاستعمار لا زال يمسك بناصية اللّعبة.
كاتب من المغرب