في حفرة العصفورية
لا مناص! إن النجاح في الحياة والتميز والريادة تتطلب ثمناً، قد يتبناك الكبار ويشيدون بعبقريتك، لكن أمام الاتهامات التي قد تكال لك من الحاسدين، ولو كنت بريئاً منها، سنجد أغلبهم إن لم نقل كلهم يقصرون في الدفاع عنك، لعلهم يخافون شيئاً ما يمنعهم! سطوة القانون! والأكثر سطوة المجتمع!ّ تتداعى هذه الأفكار في مخيلتي وأنا أقرأ عن مي زيادة مقالة بعنوان: «مي المعجزة.. هي مي المأساة» للدكتورة نجاح العطار بمناسبة الاحتفال الذي أقيم في لبنان تكريماً لذكرى الكاتبة المبدعة مي زيادة قبل سنوات عدة.
كانت مي زيادة امرأة العصر بجدارة فقد كسرت بغير رحمة جليد التقاليد البالية، ناذرة نفسها للفداء والمفاداة معاً، وبعزم امرأة جسور فتحت بيتها صالوناً للأدب يرتاده الجميع، وفي المقدمة الأدباء الكبار الذين جايلوها وكان من الطبيعي أن تستوفي الجسارة حقها، فتضيء نجمة في سماء الشرق!
وكما يقال فإن بعض النبوغ كبعض الجمال، كلاهما يجني على صاحبه، هكذا كانت مي زيادة نابغة وكانت جميلة لذلك اقترعوا في الجلجلة على قميصها الذي أشعلوا فيه النار، وقبل أن يفعلوا جرّوها منه إلى مستشفى المجانين بذريعة الحجر على جمالها وهو هبة سماء وبحقيقة الحجر على ممتلكاتها هذه التي خافوا عليها أن تتبدد في الإنفاق على صالونها الأدبي وعلى حبر دواتها ذي السائل الذهبي وعلى يراعتها الماسية وما كان لها من تأثير بالغ في الدفاع عن المرأة ضد الرجل الذي كان مستبداً ولم يكن عادلاً، وما طلعت به على الدنيا من جديد الفكر كشفاً عن نساء سبقتها فجاءت هي في زهو حرفها لتقصّ قصتهن وما بلغن من مرتبة رفيعة غيبتها أو كادت قشور زمن الحريم البائس.
في حفرة «العصفورية» مضغت «مي» صبرها على الذين أخافتهم النجمة الطالعة من رائعة النهار! كتبها، مقالاتها، خطبها ورسائلها، تفجرت حمماً أضاءت فضاء الشرق، قشعت عن وجه الزرقة داكنة الغيوم، طرحت أسئلة محرجة، رسمت ابتسامتها شارات الاستفهام، وهل الأدب في إبداع الإبداعي سوى هذا؟! وما الكلمة إذا لم يكن من شأنها أن توقظ الضمائر وتفتح العيون مانحة الرؤيا لمن يحتاجها؟ وما الوجه بغير ابتسامة، والصداقة من دون وفاء؟
وكان يكفي آنذاك أن يسمى العاقل مجنوناً حتى تلصق به، مرة وإلى الأبد التهمة العظمى بأن يزاح من مجتمع العقلاء ليصنف في حظيرة البلوى.
بعد المغيب لا تكون الشمس نفسها عند الطلوع، عادت مي زيادة طلعت، خطبت، أدهشت، إلا أنها من الداخل كانت قد عطبت ولاحق العطب حماستها، تمردها، سمعتها، فذوت، وذوت حتى ارتحلت، وعندئذ بكى قمر في القبة العلياء.