ضمن المركز الوطني للفنون البصرية.. معرض «أنا اللوحة» وتوظيف الجَمال حياتياً
حدثٌ جميلٌ أن يجتمع مئة وخمسة وعشرون طفلاً في معرض واحد لأعمالهم، لاسيما أن سجيَّتهم وبداهتهم هي المسيطرة على ما خطَّت أيديهم، فأجمل ما في لوحاتهم ومنحوتاتهم هي التحرر من التقليد، والابتكار بمستوى الفنانين الكبار، أليس بيكاسو من قالها مرةً بأنه سعى لعقود وعقود أن يتحرر من كل ما تعلَّمه ليعود ويرسم كالأطفال؟
هذه البساطة التي تمتعت فيها أعمال معرض “أنا اللوحة” التي جاء نتاج ورشات عمل مرسم شغف وعُرِضت في بهو المركز الوطني للفنون البصرية، هي عنصر جاذب، لما فيه من قيمة تشكيلية هامة، رُبَّما لا يتجرأ كثير من الفنانين الكبار على اجتراحها، أو الخوض في غمارها، أو على الأقل فإنهم يسعون كثيراً من أجل أن يمسكوا بجماليات البساطة وبداهة روح الأطفال، التي تعمل وفق هواها، ضاربةً عُرض الحائط بكل ما هو مُكرَّس، وإضافة إلى تلك الروح المتوثبة لدى كل طفل، نلاحظ القدرة الفائقة على التوليف، سواءً بين الألوان أو الأشكال أو استخدام المواد المختلفة، بحيث لا يقف في وجه الأطفال أي شيء، ويمتلكون من الرغبة في الفن المتغلغلة في أرواحهم ما يدفعهم لابتكار حلولهم التشكيلية الخاصة، والسعي لتحقيق توازن العمل بتكويناته المختلفة وكتله المتفاوتة، وفق مقاربات جمالية تستقي أهميتها من بداهتهم الوافرة، وقدرتهم على التوفيق في اشتغالاتهم، بين الفكرة وتنفيذها، بين المُضمَر في عقولهم المرحة وبين تجسيد ذلك، سواءً على قماش اللوحة، أو في طين المنحوتة، أو خلال تعاملهم مع الأوراق الملونة، والأسلاك المعدنية، ورقائق السيلوفان، وغير ذلك.
ومن الجماليات المُضافة إلى معرض “أنا اللوحة” هو التوظيف الحياتي للفن التشكيلي، وكأن هناك رغبة من القائمين على مرسم شغف، للانتقال من جماليات الفنون، إلى وظائفها الحياتية، فالاشتغال بالخزف مثلاً، يمكِّن الطفل من صياغة منحوتة ذات تكوينات غاية في الروعة من ناحية علاقة الكتلة بالفراغ، ومفصلة الزمن، وتشكيل الملامح وتصليبها بعدما كانت مجرد طينة طرية، لكنها في الوقت ذاته قادرة على أن تصبح كأساً أو إبريقاً أو صحناً، ويحمل من الجمال الكثير، وفي الاتجاه ذاته، تم التَّوجُّه إلى الاستفادة من التشكيل وخصوصيته على اللوحة المُسطَّحة، ونقل ذلك إلى الاهتمام بجماليات الجسد، عبر الأزياء، إذ باتت الملابس عبارة عن لوحات متنقلة، قام الأطفال بتصميمها وفق هواهم، والاشتغال برؤى مختلفة، فليس المهم هو صناعة كنزات تقليدية أو فساتين عادية، وإنما عمل كل طفل على تقديم تصوره الخاص عن الزي، جامعين بين ما يشبه الأزياء البدائية وتصاميم غاية في البساطة والجمال، فالأزياء ليست مجرد سَتْر للجسد في هذا المعرض، بقدر ما كانت تحمل قيمتها الجَمالية ومن روح الأطفال ذاتهم، وكأن هناك اندغام بين الفكرة والمضمون والغاية، وزادها جمالاً عرض الأزياء الذي أقيم في حديقة المركز الوطني للفنون البصرية، حيث مرَّ الأطفال بثيابهم التي صمموها بأنفسهم من أمام أهاليهم وعلى وقع موسيقى مناسبة وإضاءة جعلت منهم نجوماً صغاراً بابتكاراتهم المُبهرة، فمن الجميل جداً أن تنقل جماليات أفكار الأطفال إلى أرض الواقع، والسَّماح لهم بأن يُسخِّروا فنَّهم في خدمة حياتهم وحياة من حولهم، بمعنى أن ينقلوا الجمال ويغرسوه فيما حولهم، بحيث لا يبقى أسير لوحة أو منحوتة، بل يصبح مُشاعاً وقادراً على تحقيق عدوى جمالية تنتقل إلى غيرهم من الأطفال والكبار.