رولا أبو صالح ترسم وتفتح بواباتٍ من الأسئلة
أن تُقيم معرضاً فهذا حكمٌ عليك بالجرأة، ليس فقط لأنك تفتح بواباتٍ من الأسئلة واحتمالات الأجوبة مع الآخر بل لأنك تواجه العالم بأفكارٍ وقناعاتٍ تخصك وحدك، آلامك وأمنياتك وهواجسك، وأنت معنيٌّ جداً بالدفاع عن أحقيتها في العرض، لهذا ربما فضلت رولا أبو صالح اختيار عددٍ محدود من أعمالها لمعرضها الثاني المقام حالياً في غاليري جورج كامل، رغم أنها ترسم يومياً ليقارب رصيدها الفني مئات اللوحات، جزءٌ كبير منها «يُحاكي مسائل نفسية لا تحبذ ظهورها للعلن».
يُؤخذ المشاهد سريعاً بمزيج قاتم من الأسود والرمادي يطغى على ما سواه من إشارات، ولا يلبث أن يُميّز زيّ المهرج في أكثر من عمل، تقول أبو صالح عن هذه التوليفة بين المُبهم وما اعتدناه عن كوميديا السيرك: أتخيل أننا نُحَمّل أنفسنا ما لا طاقة لنا به، فيتغير لوننا حسب المشاعر التي تتراكم مرة واحدة ليصبح لوننا أسود، هذه الأعباء تأتي من المسؤولية والخوف على الآخرين والقلق والتوتر بالتالي نفقد القدرة على البهجة والفرح والانتباه للأشياء الأخرى حولنا، الأسود امتص كل شيء ملموس، لا بد من الهرب نحو فسحة بياض مجهولة المصير، أما المهرج فهو يبتعد هنا عن الصورة النمطية المعروفة عنه متمثلةً بإضحاك الآخرين.
ومن المفارقة أنّ المهرج يبدو طفلاً ويافعاً في عدة لوحات، بائساً وهارباً من مواجهة ما، غير معنيٍ بإسعاد الجمهور أو التغابي لإضحاكه أو كسب تعاطفه، تُمعن أبو صالح في إبعاده عن النموذج المستهلَك عالمياً، وتقول: المهرج يمثل حالة إنسان تائه، يغمض عينيه ليس عن حقيقة الوجود فقط بل عن حقائق أخرى كثيرة، جميعنا ولدنا على الفطرة السليمة، ولكن هناك برمجيات خارجية أبعدتنا عن أن نكون ذواتنا، منها ما يفرضه المجتمع من عادات وتقاليد تبعدنا عن استخدام حدسنا، فيما بعد التبعية تقود إلى العبودية والتقديس، وتحرمنا حرية الفكر والمشاعر، نصِّر على تمثيل دور المهرج المغفل لأننا ببساطة قاصرون عن توسيع إدراكنا.
تنسحب ملامح الوجوه الطفولية على معظم الشخصيات في الأعمال المعروضة، مع تأكيد الفنانة أن الأمر لا يتعلق بفئة عمرية معينة فهذه الشخوص على حد تعبيرها «تمثل البشر ككل لأننا متصلون مع بعض، الروح متصلة مع الجميع، تأخذنا الحياة ونشعر بالحداثة والتوسع ولكننا في الحقيقة عالقون». هذا الشلل الإجباري عبّرت عنه بإخضاع شخوصها لحركات شبه واحدة، جميعها حائرة، ملهوفة، متشابكة، إشارة إلى معاناة البشر جميعاً في دوامة الحياة أو هو صراع ذاتي قبل أي شيء.
تعلّق أبو صالح: البشر كما أثبتت الفيزياء الكمية متصلون على المستوى الأثيري، والشخصيات هم انعكاسات لنا، إذاً ردة فعل أي شخص في تعاملنا معه هي في الحقيقة انعكاس لنا نحن، كل شخص يعكس صورته الداخلية على الآخرين، نحن انعكاسات لبعضنا البعض، لا نستطيع تجاوز هذا لأن الانفصال وهم، لذلك نشعر أن في حياتنا تجارب لم نخضها ولكننا مررنا بها من قبل، نستشعرها لأننا واحد حتى لو حاول أحدنا الهروب والنجاة، مصيرنا واحد ومجهول، يمضي البشر حياتهم وهم يدَّعون رسالة البحث عن الذات والعثور على جوهر الوجود، لكن في المقابل كل ما يفعلونه هو الهروب من الوجود!.
لا تبدو رولا أبو صالح معنية بالتخطيط لمعارض قادمة، وهي لا تحبذ في السياق ذاته المشاركة في معارض جماعية، وكأنّ الأولوية لديها للفكرة لا للتنفيذ، ما يوازي بطبيعة الحال «العرض»، عدا عن أن الحوار معها يُعطي المشاهد نقاط علّامٍ جديدة ليقرأ ويبحث في أعمالها، ولا إشكالية في هذا طالما كان راغباً في اكتشاف المزيد عما يمكن أن تؤول إليه التجربة عموماً، ولاسيما إذا كانت مبنية على همٍّ شخصي كما في حالة أبو صالح.