نحن في قلب خرائف الزمان وليس التاريخ
لا زال التاريخ يحيرني، فلسفة ومنهاجاً، ولعل السبب في ذلك أنّني اخترت التّأمل في التاريخ بالتّاريخ، أي بالزمن الممتد لا المنصرّم.
إنّ الصورة تنتقل في الخيال حتى حينما يتعلق الأمر بالصورة الواقعية كما نستهلكها في وسائل الإعلام المرئي ومع أعظم أجهزة البثّ. من يدرك فيزياء الصورة سيدرك حقيقة أنّنا نستكملها من عنصرين:
– غفلة الحواس وانخداعها، بل قصورها عن ضبط تفاصيل الحركة.
– الخيال الذي يستكمل الثقوب التي يعجز البصر أن يستوعبها في انقذاف الصورة على نحو متقطع بالغ السرعة.
ما بالك بالصورة التي ينقلها المؤرخ، وتبلغنا بكليتها، فيما تغيب عنا تفاصيل كثيرة. ولهذا السبب تحديداً يصبح من السهولة بمكان أن يتعرض التاريخ للتحريف.
يتحدث البعض عن حاجة كل العلوم إلى التاريخ، هذا بديهي، بل أحياناً جزء من أزمة العلوم هو تاريخها، غير أنّ لا أحد ميّز بين حاجة التاريخ للتاريخ وحاجة التاريخ لضامن علمي يحصنه من التحريف.
حاجة العلوم إلى التاريخ بدهية، فالتاريخ نفسه يحتاج إلى التاريخ، لكن من يضمن يا ترى صحة الحقيقة التاريخية؟
إنّ غريزة التحريف لا تستثني حقلاً من حقول المعرفة، ولكنها في التاريخ أخطر إذا لم نستعيد الحدث في عين الحاضر الذي يضعنا أمام نقائض الأحداث وتورختها. إنّ الأمم تعيش على سبيل الوهم التاريخي كلّما تنكّرت للوعي التاريخي الممتد في حاضرها.
والعرب كثيراً ما يسليهم التاريخ المزيف، بل يرتبون آثاراً على الوهم، بل من التاريخ ما افتأتنا عليه. إنّ التاريخ يفسر بعضه بعضاً، وجب قراءته في تفاصيله وآناته ووثيقته الكاملة. إن التاريخ الذي يعبر عن استعارات تؤسس لأمجاد وهمية، هو إنشاء يدخل في الآداب السلطانية وأيضاً في المقامات الأدبية. فالتّاريخ ليس فقط وثيقة، بل تأويل للوثيقة، وأيضاً تحقيق لمناطها.
نحن مدينون لتلك الأحداث التي يُخفيها المؤرّخ، أحداث من شأنها أن تربك صورة المعمار التاريخي وما يترتب على ذلك من آثار من شأنها أن ترتبك مع تحوّل الصورة، أجل نحن مدينون لأولئك الأبطال التاريخيين الذين كانوا يصنعون التاريخ ويخاطبوننا من بعيد، حتى أنّ قومهم لم يلتفتوا إلى حكمة بيانهم ونهجهم، لقد كانوا يائسين ممن حولهم، من الوعي المثقوب. لقد تواصلوا مع حاضرنا أكثر مما فعلوا مع الماضي، لقد رفضوا أن يكونوا شهود زور على التاريخ وفي التاريخ، لكنهم فضلوا أن يصنعوا حدثاً غير قابل للتفسير بأدوات عصرهم، لكننا نستطيع قراءته بأدوات عصرنا. إنّ التاريخ الحقيقي يقتضي الإنصات لمحنة التراث وما استبعد منه وما تعذّر تفكيره وتأويله بأدوات عصره.
ما كان بالإمكان أن ندرك مهزلة التاريخ لولا هؤلاء العظماء الذين رسموا بالموقف والتضحية معالم تراث آخر، لقد كان خيالهم نبيلاً، لكن الخيال غير المصنّف هو خيال مُخاتل يقع في صلب العملية التحريفية التاريخية.
فعل تحريف التاريخ ليس حدثاً تاريخياً، بل هو فعل مستمر يعتمد غفلة الحواس، والخيال لترميم فتوق الحدث. يكثر في التاريخ الوهمي صور الخيال ومزاعم لا ترسوا على قرار. حين يُقرأ التاريخ من سردية واحدة، وعلى حين غفلة من الوعي، وفي غياب المؤرّخ- المحقق، فسنكون دائماً أمام جولة من جولات التحريف، وما أسهلها من صناعة عند مخاطبة العوام، وما أصعبه من موقف عند مخاطبة المحققين.. لا شكّ أنّ تاريخنا لم يكتب بعد، ولكن عليه أوّلا أن يصفّي حسابه مع إرادة التحريف ومع الثرثرة غير التاريخية.
كاتب من المغرب