احتفاءً بالحب والسرد

تنقصها صفحتان, لم يكن هذا الاكتشاف متاحاً حين قلّبتُ صفحات الرواية القديمة سريعاً فيما صار يُعرف بـ«سوق الوراقين» للكتب المستعملة بالبرامكة، كان يكفيني – ومازال – العثور على «السفينة» رواية الكاتب جبرا إبراهيم جبرا بطبعةٍ ثالثة عن دار الآداب في بيروت, بالطبع غياب صفحتين من دون سابق إنذار أشبه بمطبٍ مُفاجئ، لا خيارات أمامه سوى تجاوزه.
«السفينة» روايةٌ يطول السرد فيها، بَوحاً وعتباً ومواجهة، تكثر فيها الأوهام والأحلام، وتُعلي في الوقت نفسه من شأن الحوار والفلسفة والأرض والموسيقا، متكئةً على شخصيات تتباين طرائق تفكيرها وخبراتها الحياتية ورؤاها، جمعتها المصادفة في رحلة بحرية إلى إيطاليا، وفي حين يبدو اجتماع المسافرين حدثاً رئيساً، ينحاز الكاتب نحو مجموعة حوادث منفصلة زمانياً ومكانياً، ليوغل في ذاكرة عدد من شخصيات روايته جاعلاً إياها أقرب إلى مجموعة سيرٍ ذاتية، أبرزها سيرة المهندس العراقي عصام السلمان، وسيرة الفلسطيني وديع عساف، وفي كل منهما إطلالة على حياة آخرين في إطار يضيق أحياناً, ويتسع ليشمل مدناً بأكملها من القدس إلى بغداد والكويت وبيروت، بما فيها من مفارقات وفجائع، فـعصام لا يستطيع الهروب من جريمة ارتكبها والده منذ زمن طويل بحق أحد أبناء عمومته، ولمى تنصاع للعداء القائم في العشيرة الواحدة لكون القتيل عمها، وحين يلتقي الاثنان في أرقى جامعات العالم وتجمعهما نقاشات الهندسة والفن والأديان، يستسلمان أمام قانون العشيرة الذي يمنع زواجهما بحجة الخلاف القديم!.
أما وديع المُستغرب من الذهنية التي تحكم على الفلسطيني في أرضه، فيقول واصفاً علاقته مع محيطه بعد سفره إلى الكويت وعمله في التجارة، يقولون عني: انحطاطي ماكر، يناقض نفسه، “يعبد القرش”، ما عادت أرضه تعني له شيئاً، كأنهم يريدونني أن أحمل حفنة من ترابها في كيس من ورق في جيبي دليلاً على ألمي، وأنا أحمل صخورها البركانية الزرقاء كلها في دمي.
ومع إنّ «السفينة» تواكب انقلابات حقيقية في المجتمع العربي لكنها تحتفي بالحبّ أولاً وأخيراً بوصفه عبثاً والتزاماً وعبئاً أيضاً، وعندما تتورط شخصياتها بالبوح والحماقات ليدرك المسافرون أن أحداً منهم لم يختر الرحلة مصادفة، لا نجد كلمات كالخيانة أو الخسارة، تبريراً ربما لما تميل إليه نفوس البشر ضعفاً ودناءة برغم ما فيها من حب, يقول جبرا في روايته: الغصة الكبرى هي هذا الذي يعجز عنه التحديد, وفي فصل آخر يقول: الفلسطينيون كلّهم شعراء بالفطرة، قد لا يكتبون شعراً ولكنهم شعراء، لأنهم عرفوا شيئين اثنين هامين، جمال الطبيعة والمأساة, وفي الرواية كثيرٌ يستحق التوقف عنده.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار