علو كعب العرب
لم يكن وهماً ما تشهد به صفحات التراث، فكل يوم تروي صفحات الحياة من يوميات أجدادنا ما يعجز عن وصفه اللسان من تضحية وحب وإيثار وعمل طيب لا يسعى وراء سمعة أو رياء أو مصلحة!
ورغم ذلك يحاول البعض التقليل من شأن الفكر الإبداعي عند العرب ملوّحاً بأنهم نقلوا العلوم من الحضارات اليونانية والرومانية لكنهم لم يجددوا فيها، والأغرب أن لهم من يسمعهم من العرب الذين لم يطلعوا أصلاً على نتاج وفكر أجدادهم، بل ترى بعضهم يتنصل منه كأنه حالة غير مرجوة.
بالمقابل نجد بين المفكرين الغربيين من يقر بأنهم المعلمون الكبار في العلم، وأن أمانتهم تتجلّى في ثلاث ظواهر بارزة وهي إتقانهم لجوهر التراث اليوناني والروماني وتحسينه بالتصويب والتنمية، وتسليمه للعصور الحديثة.
وعلى نحو مماثل يقرّظ نيكلسون مكتشفات العرب العلمية، معتبراً المكتشفات الحاضرة ليست ذات شأن بالقياس إلى ما يدين به العالم للروّاد العرب، فهم – على حدّ تعبيره – مشاعل وضّاءة وسط ديجور القرون الوسطى وظلمتها الواسعة، وخاصة في المجتمع الأوروبي.
ولم تخرج نظرة «بروكلمان» و«ماكس مايرهوف» و«براون» و«كامبل» و«غاريسون» و«داربر» و«رينالدي» و«سيديو»، عن هذا الإطار لا بالنسبة لحقل معيّن من حقول المعرفة العلمية، بل بالنسبة لشتّى الميادين. فالعرب باعتراف «وايدمان» أكبّوا على التراث اليوناني ونظرياته فأدركوا جوهرها وسبروا غورها وأفادوا منها، لكنّهم لم يقفوا عند حدودها بل استحدثوا الجديد من النظريات واستنبطوا الكثير من الحقائق، ولم تكن هذه المعطيات والجهود أقل شأناً من مكتشفات «فاراداي ونيوتن ورنتجن».
ولاشك بأن الكثير من الحضارات كان ضعفها في كثرة الأساطير والأوهام والتخيل، أما حضارتنا العربية التي يتفنن بعض حاقدي الغرب وذوي الجهل في تشويهها كأنها عبء على البشرية فهي التي أسست بنيان تاريخ الأخلاق والفكر الإنساني، وأضاءت للعالم دروباً وطرقاً سهلة للحياة، وأبجدية تعلمنا كيف يحب الإنسان أخاه الإنسان لأننا من عائلة واحدة تبدأ من أبينا آدم عليه السلام وأمّنا حواء ولا فضل لإنسان على آخر إلا بالأحسن عملاً وخلقاً.
ولعل الوقائع والحقيقة تكمن في مشاهدات موثقة لا سبيل إلى نكرانها أو التلاعب فيها، فهذا خزيمة بن بشر، من بني أسد في الرقة وكانت له مروءة ونعمة حسنة وفضل وبرّ بالإخوان، فلمّا يزل على تلك الحال حتى احتاج إلى إخوانه الذين كان يتفضل عليهم فواسوه حيناً ثم ملّوه، وكان عكرمة الفيّاض الربعي والياً على الجزيرة، فبينما هو في مجلسه إذ جرى ذكر خزيمة بن بشر فقال عكرمة: ما حاله؟! فقالوا: صار من سوء الحال إلى أمر لا يوصف فامسك، ثم لما كان الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار فجعلها في كيس «واحد»، ثم سار حتى وقف بباب خزيمة فناوله الكيس وقال: أصلح بهذا شأنك. قال خزيمة: فما أقبل أو تخبرني من أنت. قال: أنا جابر عثرات الكرام.
ولو قلبت يوميات آبائك وأجدادك لرأيت أكثر من جابرٍ لعثرات الكرام ولا أقول ضاع أثرهم وفَنَي خيرهم فثمة من يطوف في الليل وفي النهار يقضي حوائج الناس ولا ينتظر أن يعرفوه حتى يشكروه.