تأملات في الحدث (عودة طالبان 5)

– كل الكذب هو كذب تقوي، سعادة أن تكذب هي قضية جمالية، فقط الحقيقة متعتها ذاتية، هذا ما يحاول قوله نيتشه في إحدى شذراته، والأهم أنّ جمالية الكذب هي التي تضعك أمام الحقيقة التي يعبر عنها الكَذَبَةُ رغم أنوفهم، هذا إذاً يتطلب تحليل الخطاب والوقوف على الأنين العميق لنوستالجيا الضلال.. قال سقراط: (تكلم لعلّي أراك)، قال علي بن أبي طالب: (تكلموا تُعرفوا، فإنّ المرء مخبوء تحت لسانه).

– متوقع من كل حجاج عالي أو خفيض أن يحضر سُلّم دياكرو، صعوداً ونزولاً، وإن اقتضى الحال الهروب إلى أقصى ضروب المغالطة، ومنها مغالطة التّظلّم، وهي من أخطر أنواع المغالطات وأضعفها، كيف تنقلب الحقائق وتصبح الجريمة وجهة نظر والتّطرّف وعكة تخفي الفضيلة والأكثر من كلّ هذا التهريج أنّ نستسمح “طالبان”، وكأنّنا في مسلسل “سامحيني”.

– الحدّ المشروع في الحجاج حتى برسم سلم دياكرو، الرغبة في أن نتكلم لنؤثّر، لكن يبدو أنّنا نختلف في طريقة التأثير، وكيفية التأثير، واحترام قواعد الإقناع، لا يمكن أن نشوّش على الحقيقة رغبة في التأثير، لا يمكن أن تكون مقنعاً في ركح، يكون المتلقّي فيه مُحلل خطاب.

– إلى أي حدّ نملك الشجاعة لنعانق الحقيقة خارج فنّ ترقيص الوقائع. في نظري أن “طالبان” السابقة هي أوضح وأصدق من “طالبان” الحالية، الأولى كانت منسجمة مع ذوقها وتاريخها وجغرافيا” تحنطرها”، أمّا هذه الأخيرة فقد تمّ شحنها بقواعد العلاقات العامة، وهي اليوم تحاول تبييض ماضيها بتقنيات القوة الناعمة، وهي قوة غير مقنعة، لأنّ القوة الناعمة تقوم على الجاذبية، ولا شيء جاذب حتى الآن.

نعم، الوقت لا زال مبكراً لكي نحكم على “طالبان” بأنها حمامة سلام، وليس العكس، يجب أن نحذر من اللعب بالألفاظ.

– لن تستطيع “طالبان” الصبر على قواعد العلاقات العامة، إنها لن تستطيع على ذلك صبراً، ففي أوّل احتكاك لاسيما مع الطاجيك ستبدأ حكاية أخرى.

من يعتقد أن أفغانستان استوت ودخلت نادي السلام فهو واهم، لقد تسلطت بالقوة وتطالب خصومها بتسليم السلاح، بينما المطلوب الحوار مع الطيف الأفغاني لتشكيل حكومة انتقالية. عين “طالبان” على السلطة، وهي مجهزة بأسلحة أمريكية ثقيلة لخوض حمام دم من أجل السلطة، ما يحرك “طالبان” هو غريزة السيطرة.

– يحتضن محور الإخوان مشروع “طالبان”، لأنها مستقبله، وطريقه إلى استئناف التمكين، لا يمكن للمحاور الإقليمية إيّاها أن تحضن الإخوان إلى الأبد، لا بدّ أن تنجز لهم دولة، وفي هذا السياق لا بدّ من عملية تجميل لـ”طالبان”.

إنّ تقنيات العلاقات العامة تبدو لي هنا واضحة، كيف نشيطن حركة تحررية حقيقية، وكيف نعيد إنتاج حركة متوحّشة و”نحمحمها”.?

-لا توجد حيرة، فالحيرة تخفي مفهوماً غير المنطوق، الحيرة هي آلية حجاجية، وفي موضوع “طالبان” تزول الحيرة إذا أخذنا بعين الاعتبار ارتباط “طالبان” العضوي، نشأة وتطوراً وزحفاً وتفاوضاً، هذه قضية بديهية.

– لا يمكن أن نجعل معيار الموضوعية والتجرد كفاية الدليل الشخصي، ولا يمكن أن يكون معيارها هو إعادة السردية الغربية الجديدة تجاه “طالبان”، ويبدأ تجردي هنا من خلال العلائم التالية:

– نتتبع قصة “طالبان” وتشبيكات الوضع الأفغاني منذ النشأة الغريبة لهذه الحركة، كيف استطاعوا إسقاط حكومة المجاهدين بسرعة البرق، وهو ما لم يقدر عليه الاتحاد السوفييتي. ترى هل فاجأتنا سابقاً أم لاحقاً؟ أبداً، كنا ندرك منذ البداية أنها حركة تشتغل تحت الرعاية والتنسيق مع قوى إقليمية ودولية، وتابعنا ذلك الفيلم الديوباندي الهندي من الـ(طق طق إلى السلام عليكم)، ربما فاجأت المجاهدين أنفسهم يوم أتتهم من حيث لم يحتسبوا.

– لا نكتب إلا بتجرد، وإن جعلتنا حقيقة الجرائم السابقة أكثر قسوة مع جماعة قامت على مفهوم إدارة التوحش الذي سيبلغ منتهاه مع داعش.

ليست “طالبان” هي وحدها من فاجأت الجميع، هذه حجة ضعيفة لمنح الشرعية لها ومحاولة تضعيف حجة من يضع اليد على الجرح النازف لظاهرة التطرفات ومخرجات لعبة الأمم، فداعش فاجأتهم أكثر.

– ما نذكره يستند إلى معايير دقيقة وفلسفة سياسية ومعطيات حقيقية، بعيداً من العواطف الدفينة والعشق الممنوع ونوستالجيا التطرفات، لا يوجد فيما نفعل رغبة في الإنشاء الرخو أو المقامة الحرورية، أو كما يفعل البعض يعيد تكييف الخطاب في ضوء ملاحظاتنا، ينقص ويزيد كأنه بروكرست، إن المتجرد تعنيه الحقيقة ولا يتخبّط في طريقها.

– أعتقد أن مسار “طالبان” كعقليتهم كفقههم الجاهلي بسيط وبديهي لا يحتاج إلى تكلف في التعليل، لا يوجد غموض أو تعقيد في شأنهم، أحيان تصبح عملية تعقيد أمرهم محاولة منهجية تقع في إطار مغالطة تعقيد المبسّط. لقد كانت “طالبان” ولا زالت تتحرك تحت إشراف قوى، تتبدّل لكنها في المحور نفسه، وها هي اليوم ترث مجد الاحتلال وأسلحته. حققت سطواً مريحاً على الأرض والسلطة، بناء على صفقة لا يخفي الراقصون فيها وجوههم.

– أسس الإخوان ومن تفرع منهم خطابهم على نظرية المؤامرة، في نصوصهم الأولى وخطابهم التأسيسي ولا زالوا، غير أنّهم اليوم يتهمون غيرهم بها في سياق الجدل حول قضية لا أبْدَه منها في لعبة الأمم.

– “طالبان” لم تشذ عن السلفيات والوهابيات والإخوانيات، بل تكمن عبقريتها في أنها استدمجت كل هذه الملل والنحل لتصنع منها نموذجاً للتطرف الخلاّق.

ثمة مشترك عقائدي وإدارة مفهوم الشريعة مع الوهابيين، لا يحجب ذلك أصلهم الديوباندي والحنفي، لا ننسى تحالف داعش مع النقشبندية بالعراق في ذروة اختلاط الحابل بالنابل في لعبة الأمم بالعراق.

– لم يكن للإخوان موقف سلبي من “طالبان”، إن لم نقل إنّ الإخوان هم منتج للإسلام الهندي والآسيوي، إن الاحتلال الأمريكي منع أي محاولة لاجتثاث “طالبان” داخل أفغانستان، لقد احتكر “محاربتها”، كما يحاول احتكار “محاربتها” في شرق الفرات.

– لا ينفع في الحجاج القول بأن “طالبان” هزمت كل هؤلاء، علينا أن نتساءل: لماذا هزمت داعش كل هؤلاء، وتماما كداعش فاجأت الجميع، ممن تنطلي عليهم ألاعيب الأمم أو من لهم وصلة رحم معهم .

– في المواقع التي لا توجد فيها رعاية لداعش أو مقارعة وقطع الإمداد، تتحول داعش إلى جداجد. لا يمكن أن نتحدث عن انتصارات في بيئة يتواجد فيها اللاعبون الكبار، وفي الآونة الأخيرة كان اللاعب الوحيد في أفغانستان هو الاحتلال.

لا يمكن فهم “طالبان” من خلال ما تقوله أو يقوله عنها الإخوان أو الاحتلال نفسه.

– ليس الإخوان عدواً لـ”طالبان”، بل هم من يشكل الغطاء اليوم، دافعوا عنهم بشدّة والآن هم في طليعة من يسوق لـ”طالبان”، ومن يحول صفقتها إلى انتصار.

ما تفعله “طالبان” هو تمرين الإخوان أنفسهم، وهم المشرف على “طالبان” المتحوّرة.

يجوز التدليس على العالم في فقه الإخوان وسائر السلفيات.

– في الماضي كان الإخوان سنداً لكل حركة متطرفة في آسيا الوسطى، ومع أنهم طيلة ثمانينيات القرن الماضي هللوا للمجاهدين، تراهم اليوم أقل وفاء حتى لحلفائهم السابقين، سرعان ما عانقوا قاتلي المجاهدين وقالوا فيهم أحلى ما يجود به الخاطر من ضروب الغزل “المُحنطر”. لا وفاء للإخوان.

– اليوم يُعاد إنتاج “طالبان” بعناية في غرف عمليات المحور الذي يراهن على الإخوان، الإخوان حاضرون بقوة، هم مستشارون في محور “الربيع الأعرابي”، والآن هناك تحضيرات لربيع ديوباندي. لقد اخترقت السلفية كتاتيب الديوبندية والآن أتى دور الإخوان. الغرب يزج بالعالم الإسلامي في معركة ضدّ الكونفشيوسية والبوذية عن طريق الإسناد والتمكين للجماعات الأكثر عنفاً وقابلية للجرائم ضدّ الإنسانية، هذا أبسط مقتضيات الصراع حول أوراسيا، ومقولة ماكيندر: من سيطر على منطقة الهارت لاند سيطر على العالم.

– قضية “طالبان” ليست قضية تمحّل وتكلّف في التعليل والحديث عن النوايا. “طالبان” تعلموا من عش دبابير الإخوان.

– تساءل ما هي جمالية الحدث الـ”طالباني”؟ أعتقد أن شيئاً من ذلك بدأ يلوح في الأفق، جمالية انقلاب المعنى، كوميديا التطرفات، شيء يدخل في إطار استراحة مقاتل يتهجّى قواعد وقوالب العلاقات العامة، إنها وضعية كاريكاتيرية، والأجمل فيها أنّها تمارس بجدّية البهلوان.

كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار