أسرار صنعة الحكاية ..!
في أرض بعيدة ، يتعذر الوصول إليها بخطواتك.. يبدأ الخيال برسم لوحات مستوحاة من المعلومات التي جمعتها, وإذا كان لديك حس الجمال والإبداع تستطيع أن تزين تلك الأرض بكل ما تشتهي .. هكذا يمكنك أن تبدأ السطر الأول من روايتك … فالراوي هو رسام يحاول كتابة سيرته الذاتية، والأهم أفكاره عن الفن، الجميل والقبيح، أسلوب الرسم، مصير العمل الفني، ومصير الفنان، وشخصيته: «أبلل فرشاتي وأقرٍّبها من القماشة، مشتتاً بين يقين القواعد التي تعلّمتها من الكتاب، وحيرة ما سأختاره لأرسمه, وبينما أنقل بدقة نسب الموديل على قماش اللوحة، أسمع همهمة محددة بداخلي تصرّ على أن لا شيء مما أفعله يعد رسماً لا أقول لنفسي: إنه ليس عملاً ضائعاً، كما فعلت في مرات أخرى، لكي أستمر في الرسم مخدراً ودخيلاً , الصورة بعيدة جداً عن النهاية التي أريدها، وقريبة جداً من النهاية التي قررتها».
نفتح النافذة على تجربة الروائي والأديب الاستثنائي خوسيه ساراماغو الهامة وذات الدلالة ليس فقط لكونه من الأدباء الحائزين على جائزة نوبل، 1998، بل لأن هناك الكثير من الكتّاب الذين لعبوا دوراً محورياً في تاريخ السرد الأدبي من دون أن يحوزوا على هذه الجائزة، لكنه في روايته العاشرة «دليل الرسم والخط»، عام 1977, كان بغاية الإتقان والمهارة حيث يضع ساراماغو الحياة على لوحات الرسم والتواءات الخط من أجل فهمها، من أجل إيجاد المعنى الحقيقي لكثير من تعقيداتها بشكل فلسفي، من أجل مجابهتها بأسئلة كثيرة تبحث لنفسها عن إجابات من خلال حياة بطل الرواية رسام البورتريه الذي يرسم بيد تتمرد على الفرشاة وتمسك بالقلم وهي تقول: “في الرسم توجد دائماً لحظة لا تحتمل فيها اللوحة خط فرشاة آخر، بينما هذه السطور من الممكن أن تطول بشكل لا نهائي, وهكذا يكتب رسام البورتريه سيرته الذاتية لتتماهى حياته مع الأحداث المهمة التي مرت به, وليعكس وجهُ الكتابة وجهَ الرسم وليتردد صدى العمل في فكرة أن الأخلاق وعلم الجمال لا ينفصلان, وأن الفن ينبغي أن يكون صوت ضمير المجتمع، وأن الصورة وسيلة من وسائل تحقق المعرفة».
هذه النافذة تفتح أمامنا الكثير من الأسئلة والأفكار حول الهدم الفكري والأخلاقي في كثير من النواحي الأدبية والنثرية في أدبنا الحديث وحول غياب الفكر والتفاعل مع القارئ فالفن كان ولا يزال يطرح الكثير من الأفكار والأسئلة ويدفع القارئ إلى التأمل والمشاركة في وضع الأجوبة .
وبهذا المعنى نورد ما كتبه الشاعر رائد وحش بتحليل لماح لمفهوم القصة عند ساراماغو: تنطلق الرواية الساراماغوية دوماً من فرضية أو من سؤال، وتالياً يتحوّل النص إلى برهنة على تلك الفرضية، أو إلى إجابة عن هذا السؤال, ولعلّ هذا أخصّ أسرار صنعة صاحب الكتابة والرسم .
إن ما ينتظره الشارع من كتاب الروايات والأدب والتعبير هو ذلك الفن الرفيع الذي يعبّر عن أفكارهم وضمائرهم ويكون مسرحاً أبطاله الناس الذين يسيرون في الشارع, ويصيغون بأعمالهم البسيطة جواهر الحياة الأصيلة.