تأملات في الحدث: (عودة طالبان 4)

– كيف ندرس تجربة حركة لم تضع كتاباً تشرح فيه خططها وبرنامجها ومشروعها وتصوراتها، ما هي ورقتها وأرضية مشروعها الذي تريد أن تتقاسمه مع الطيف الشريك؟ لا شيء، حركة أمّية لا تؤمن بكتاب، ولم تترك حتى سِفْراً توثق فيه تجاربها، مع أنها حركة تمثل آخر تجارب القتال في أفغانستان، ويعود ميلادها إلى تلك القصة التي يعرفها الجميع آنئذ.

لا يمكن لتجارب صنعت داخل غرف عمليات مشبوهة أن تصبح جزءاً من تاريخ حركات التحرر.

في التاريخ ما يغنينا من التجارب عن هذه الحركة، في تاريخ مقاومتنا للاستعمار وفي تاريخ ما درسناه ودرّسناه من تجارب الأمم وحركات التحرر من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ما يعزز وجهة نظرنا في تجربة “طالبان” المضمّخة بالهمجية وقتل البشر وتدمير الحجر، يبقى السؤال: ما وثيقة المراجعة، وبناء على أي مبانٍ جديدة تمّ هذا التحوّل؟ أم إننا أمام تمرين في العلاقات العامّة؟ نحتاج إلى قدر من الإدمان على الأفلام الهندية لنتحدث بهذا الخيال البليد.

– انتصرت “طالبان” على خصومها الأفغان، وليس على الأمريكيين، فقرار انسحاب هؤلاء نابع من تنامي تكلفة الوجود في أفغانستان وتأمين ما يحتاج إليه الشعب الواقع تحت الاحتلال من إنفاق؛ السؤال: ماذا كان في وسع “طالبان” فعله فيما لو وجدت أدنى مقاومة من الشعب الأفغاني؟ ألم تكن على استعداد للقيام بمذابح واسعة؟ حتى الآن سهلت “طالبان” المأمورية على الأمريكيين وحمت ظهورهم، والمقابل، هو إحكام السيطرة على أفغانستان.

– إذا خلصنا من هذه البدهية التي وجب فهمها بأدوات تطور الذهنيات في سياقات سوسيو- تاريخية واستنادا إلى أُفرودات متعددة المناحي، وليس في خيال المقامات الحرورية التبسيطية، آن لنا أن نتحدّث لغة علم السياسة، فنقول متسائلين: ما هي آفاق تدبير أزمة حركة ملتبسة تملأ فراغ احتلال، هو في الحقيقة لم يكن له من مسوغ سوى “طالبان”، التي تكاملت مع الاحتلال في شرعنة الوجود الأمريكي في أفغانستان، هذا سؤال الجوار الإقليمي أولاً وقبل كل شيء.

ولقد عبر الجوار عن الأزمة بواقعية، مثل الصين وروسيا وإيران.. الواقعية هنا هي التعامل مع كل الاحتمالات ومع أمر واقع، وهذا لا يعني التعامل مع الخيال، حتى ميركل عبرت عن أنّ الأمر مقلق ولكنه أمر واقع.

– تدرك “طالبان” أنها في وضع لا يمكن أن تخطئ فيه، فالجوار لا يريد أن يكون المبادر إلى تأزيم الوضع، ولكن، ثمة استعدادات قويّة لاحتواء أي ارتداد طالباني محتمل، من جهة أخرى هناك مقاومة تتشكّل داخل أفغانستان، ليس آخرها نجل الزعيم أحمد مسعود، وحتى الآن تعتبر ولاية بنشير شمال كابول، الولاية الوحيدة التي لم تدخلها “طالبان” حتى الآن.

لا أحد حتى الآن يفكّر فيما لو كان الشعب الأفغاني يقبل بحكومة تقودها “طالبان” حتى لو تلطّف قادتها وقدّموا البوظة للشعب.

– القراءات الغربية لحدث الانسحاب الأمريكي أكثر نضجاً من قراءات الكثير من العرب، لاسيما المتيّمين بما يسمونه انتصاراً لـ”طالبان”.

تيري ميسان يذهب إلى أنّ “طالبان” لم يأخذوا ما أخذوا حرباً بل أخذوا ما قدمته لهم الولايات المتحدة الأمريكية، يتساءل أمام اندهاش ماكرون وبايدن من استيلاء “طالبان” على كابول: كيف هرب أولئك المسؤولون؟ ألم يفروا بطائرات عسكرية غربية؟ الجيش الأفغاني المجهز جيداً والمدرب جيداً والذي يفوق عدده عدد الجيش الفرنسي، لم يكن -حسب تيري ميسان- يسعى للقتال دائماً، بل جدير بالذكر أنّ الحدود الأفغانية كانت من بين أكثر الحدود أماناً في العالم، بل -والكلام لميسان- “سجل الجنود الأمريكيون هوية الجميع بوسائل إلكترونية، بما في ذلك التعرف على قزحية العين”.

تكاد التساؤلات نفسها تطرح من تشومسكي، حيث يبدو أنه وبعد عشرين عاماً، اتسعت الهوة بين “طالبان” وغيرهم، وبالتالي فالرغبة في التفاوض وبكل بساطة لم تعد قائمة.

ليس خبراؤنا وحدهم من يتحدثون عن أن “طالبان” تغيرت، هذا أصلاً كلام بايدن، فإدارة هذا الأخير –حسب تشومسكي- تعتقد أن “طالبان” ستحكم بطريقة أقل قسوة مما كانت عليه ما بين عام 1996 وعام 2001.

إذا كان ذلك هو رأي بايدن، فما الجديد يا ترى فيما يردده إعلاميونا ومن يتبع أحكامهم؟ هذا يعني أننا لا زلنا نفكّر بالطريقة الأمريكية، وبما خططت له، فهي من بادر ونسق وفاوض “طالبان”، ومنحهم فرصة التغلب.

علينا أن لا ننسى أنّ هذا التغلب لا علاقة له بالديمقراطية التي أدرجها الاحتلال الأمريكي في أولوياته، بل إنّ السلطة القادمة تقوم على العصبية والشوكة، وهي من منظور خلدوني توجد اليوم في هذه الحركة البشتونية. لكن ما يخفى هو أن العصبية اليوم لم تعد خالصة للقبيلة، بل هي في علم السياسة الويبري علاقة.

يشير تشومسكي بناء على خطاب ألقاه فلاديمير نوروف وزير خارجية أوزباكستان سابقاً والأمين العام الحالي لمنظمة شنغاي للتعاون (SCO)، في كانون الثاني، في ندوة نظمها معهد إسلام أباد لبحث السياسات، عن طريق الإنترنت، أشار فيه إلى نقل داعش لإرهابييه من سورية إلى شمال أفغانستان، وهو ما يشكل مصدر قلق في نظر تشومسكي ليس لأفغانستان وحدها، بل لآسيا الوسطى والصين أيضاً. ويؤكد تشومسكي أنه في عام 2020 كشفت صحيفة الواشنطن بوست أن الجيش الأمريكي كان يقدم دعماً جوياً لـ”طالبان”، ما جعلها تحقق مكاسب ضد داعش. الأهم في تحليل تشومسكي هو قوله “حتى لو كان هناك اتفاق سلام مع “طالبان”، فإن داعش سيزعزع استقرارها”.

– كما استطاعت “داعش” بإنزالها في سورية الإطاحة بجبهة النصرة، فإنّ “داعش “المتلهفة “لفكرة الدولة”، ستجد في معارك أفغانستان القادمة تعويضاً عن كل خساراتها في سورية والعراق.

كيف ستترك “داعش” أفغانستان، وهي التي لم تترك منطقة قابلة للاشتعال سواء في منطقة الساحل أو العراق أو سورية؟.

إنّ الصراع حول أفغانستان سيكون حامياً، بل إنّها القبلة الجيو- تاريخية للجماعات المقاتلة.

– يبقى الشعب الأفغاني في مهبّ الريح، وسيتجاوز الصدمة، وسيستعيد المبادرة، فالشعب الأفغاني لن تنطلي عليه عبارة: اتركونا لحالنا التي أطلقها الناطق باسم “طالبان”، لأنّ السؤال هنا هو: من له الحق أن يتحدث باسم التقاليد الأفغانية ومصير شعب، لا زال يرى أيادي الميليشيا التي احتلت كابول، تقطر دماً.

– لا زال هدير “البسبسة” متواصلاً: “طالبان” كيت وكيت، بس.. أنا لا أدافع عن “طالبان”، بس.. “طالبان” لها تاريخ من الأخطاء، بس.. هذه البسبسة ليست عنوان نهج في المغالطة فحسب، بل علامة على جمود في العقل وخمول في الخيال وعناد في النّفس الأمارة بالسوء.

كثيراً ما تستعمل حجة السلطة في حجاج فارغ، لكن عند التحليل، لن تكون حجة جديرة بالاعتبار، كلنا أبناء أمة مقاومة، وعند التحقيق قد يكون ضحايا عوائلنا فقط يفوق عدد ضحايا “طالبان”. لماذا يتحدث بعض العرب بزهو كما لو كانوا مقاتلين في الميدان؟ ليتهم أتقنوا فنّ المبارزة على قواعده، ليتهم أتقنوا المشي على الرصيف.

– موقفي من “طالبان” والنحل غير الموثوق بها في صناعة مصير الأمم، قديم، عشية أحداث الحادي عشر من سبتمبر قلت لنبيل خوري الذي سيصبح الناطق الرسمي باسم الخارجية الأمريكية بالعراق فيما بعد، بأنّ أوّل انتقاد لـ”طالبان” انطلق من داخل العالم الإسلامي، وبأنّ الحديث عن إدانة العالم الإسلامي بسبب “طالبان” ورضيعتها “القاعدة” مرفوض، لقد ساهمتم في صناعة هذه النحلة.

لم يجرؤ يومها أحد من السلالات الإخوانية أن ينطق ببنت شفة، ولكن لسانهم أصبح طويلاً بعد أن هدأت الأمور، وقد كانوا حينها في ذروة التّملّق، لأنهم لم يكونوا واضحين، وحينئذ فقط كبتوا نزعتهم التطرفية إلى حين.

– الواقع اليوم في أفغانستان، هو أن “طالبان” كانت أكثر حظوة من نظرائها. إنها بخلاف القوى الموجودة هي الحركة الأكثر قابلية لخوض حروب بالوكالة ضد المحور الروسي- الصيني- الإيراني، الواقع هو أن أفغانستان ستواجه حرباً أهلية بسبب الطريقة التي تمّ تمكين “طالبان” من دخول كابول من دون معركة، وهي الطريقة التي تم فرض “طالبان” بقوة الأمر الواقع بواسطة صفقة.

التحضيرات كانت واضحة، ونقل جزء من قوات أردوغان إلى أفغانستان هو جزء من مخطط مسبق، لا شيء، خرجت أمريكا من كابول بعد إنجاز مهمتها ووضع مداميك لمخطط قادم، أفغانستان مشتعلة وعاجزة عن بناء دولة. كان من المفترض أن يقوم الاحتلال، وهو مسؤول عن ذلك، بتأمين انتقال سياسي، وتحقيق السلم والأمن الأهليين. خرجت من دون أن تُحاسب، انسحبت فيما “طالبان” أمّنت ظهرها.

– في مهرجان المزايدات، نتساءل: لماذا المتسامحون مع “طالبان” لم يظهروا هذا التسامح مع تجارب أخرى في مفرق النزاعات الأنانية والاستئصالية؟ أي معنى لهذه الشيزوفرينيا الضاربة الأطناب في أنفاق النفس العربية؟ التسامح والتعاقل، كلّ لا يتجزّأ.

كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار