تأمّلات في الحدث (عودة طالبان)
– تنسحب واشنطن، وتتقدم طالبان فتحتل كابول، عملياً باتت أفغانستان تحت سيطرة الجماعة التي اعتبر جورج دبليو بوش عشية أحداث الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة، أن من ليس معنا (في الحرب على الإرهاب) فهو ضدنا.
هل أصبحت أفغانستان ورقة محروقة، أم يتعلق الأمر بسيناريو جديد، كالعادة لن تظهر نتائجه إلا بعد حين، إنّنا إزاء لعبة الحوليات.
– طائرة ضخمة تقل مواطنين، منحتهم واشنطن التأشيرة، آخرون تعلقوا بأهداب الطائرة عبثاً، بعض منهم خشية من حكومة ظلامية والبعض منهم -من عملاء واشنطن- خوفا من الثّأر، مشهد يحيلنا إلى فيتنام، من يملك حنيناً لإمارة طالبان، سيعتبر ذلك انتصاراً، وسيعيدنا إلى لحظة اقتراب الفيت-كونغ (Viet Cong) من سايغون.
هذه المماثلة السطحية هي جوهر المغالطة التي تعيش عليها المنطقة الآن. الصحف الأمريكية تكاد تجمع، بدءاً من “واشنطن بوست” حتى الفورين آفيرز، عن إخفاق الإدارة الأمريكية في أفغانستان، تتحدث عن إخفاق أمريكا وتتحدث عن خوف من انهيار مصداقية الولايات المتحدة الأمريكية أمام حلفائها، والأخطر هو الحديث عن التخلّي عن الديمقراطية باعتبارها الهدف الأسمى للسياسة الخارجية الأمريكية.
تصريحات صحفية تستند إلى المغالطة المماثلة إيّاها. غير أنّ ما يجري هو شيء مختلف، فطالبان لم تنتصر عسكرياً بل منحت صكّ الدخول، وسبق هذا الحدث مساعي تفاوضية لتسليمها السلطة بضمانات قطرية وتواجد عسكري تركي، ودائماً اللاّعب الخلفي: باكستان.
روسيا التي اعتبرت ما يحدث إثر الانسحاب الأمريكي من كابول أمراً طبيعياً، ولكنها في الوقت نفسه تخوض مناورات مشتركة مع الهند.
لم تنتصر طالبان، بل إنّ مجيئها كان نتيجة صفقة فتحت من دون سابق إنذار الباب على مصراعيه على مفاوضات غير مشروطة. وبعد أن خرجت طالبان من غيبوبتها وجدت نفسها تتقدم نحو كابول، من دون مقاومة، هذا يعني أن إرادة الانسحاب سبقت إرادة الحرب، لن تستطيع طالبان الاقتراب من المطار حتى تنهي القوات الأمريكية كل مهامها. أين هذا من سايغون؟
– لم تتقدم طالبان نحو المطار الذي سيتعزز بـ3000 جندي أمريكي لتأمين نقل اللاجئين، لا يتعلق الأمر بالفيت-كونغ، وبهروب جماعي تحت وقع تقدم المقاومة الفيتنامية باتجاه سايغون، بل يتعلق الأمر بترتيبات دقيقة، أي صفر ضحية، استيلاء ناعم، بينما طالبان التي أعملت القتل في المجتمع الأفغاني تصدر عفواً عاماً على الموظفين في سلك الوظيفة العمومية، في محاولة لاستمالة الرأي العام الدولي والبحث عن مصداقية، هذا في حين ستجد نفسها الوريث لمخازن السلاح الأمريكي، لأنّ المعركة القادمة ستكون داخل أوراسيا. ولهذا وجب أن تعود طالبان للسلطة.
– لا زالت ملامح الوضع السياسي في كابول لم تظهر بوضوح، لكننا تابعنا بدء مهرجان تقديم التبريكات، ما الذي تغيّر؟ هل عدّلت طالبان من مواقفها القديمة، وهي مواقف عقدية بامتياز؟ هل حصل انقلاب في فقهها التطرّفي، أم أنّها دخلت مرحلة التّقية في التعاطي مع الوضع الجديد؟ فبعد أن قتلت 9 دبلوماسيين إيرانيين أواخر التسعينيات من القرن الماضي، وبعد حرب طائفية في مزار شريف، يُطمئن قادة طالبان الأهالي بحضور بعضهم مجلس عزاء حسيني كعربون سلام.
نحن أمام طالبان معدّلة، بل هي في المخيال والحنين العميق للجماعات ذات المنبع التطرفي، هي الأمل المتبقي للإخوان مهما راجعوا وعدّلوا.
– أثبت الطلبة الديوباندية الذين قوّضوا حكومة المجاهدين قبل الغزو الأمريكي، أنّهم قوة قادرة على التنازل من أجل بلوغ السلطة. لقد تعلموا أن السلطة يعني تقديم تنازلات. من علّمهم هذا النهج يا ترى: باكستان أم المحور التركي- القطري؟ من جهتها تبدو طهران معنية باحتواء طالبان سياسياً.
هذه الأخيرة قابلة للتعديل: هي في الأصل جماعة أحناف وصوفية ديوباندية، على عقد الماتريدي، تحوّروا إلى متشددين وهابيين نتيجة هيمنة التيار الوهابي على هوامش الجهاد الأفغاني، ونتيجة وضعهم السوسيولوجي كرجال قبائل عاشوا في بيئة التطرف الديني، ونظراً لخبرتهم المحدودة كقدامى الطلبة الدينيين (طالبان أي الطُّلاّب)، لا أحد كان يسمع بهم، قبل أن يتحولوا تحت إشراف الاستخبارات الباكستانية إلى كتائب مقاتلة.
– لا زال الوقت مبكّراً للحكم على جماعة متطرفة تكفيرية، كما لا زال الوقت مبكراً للحديث عن أنّ طالبان بالفعل استطاعت إلحاق هزيمة بالأمريكيين، هناك مبالغات، لأنّ طالبان هي ورقة واشنطن في المنطقة، يدرك هذا الجوار الأفغاني، ولكنهم مضطرون لإبداء حسن النّية. الكل يكذب على الكلّ. طالبان تيار متطرف، وحينما يظهر سياسة مختلفة، فنحن إزاء محاولة تدليس، تتيحها الأيديولوجيا التّطرفية.
– ترامب يدعو إلى إقالة بايدن بعد هذا الفشل في أفغانستان، بايدن يعرف ما يفعل، إنه يريد سحب القوات من أفغانستان، هو يعتقد مسبقاً أنّ تواجد القوات الأمريكية في أفغانستان ورطة، وهذا بعد أن ضمن من قد يخوض حرباً بالوكالة.
يدرك أنّ طالبان ستحتاج إلى دعم واشنطن وحلفائها مثل باكستان وتركيا وقطر، سيحاول الروس والصينيين احتواءها للتخفيف من حدة التوتر، لكن في ذاكرة طالبان أنّ العدوّ التاريخي هم الروس. حاولت طهران منذ سنوات أن تقدم خدمات لطالبان تتعلق بمحاربة التواجد الأمريكي بأفغانستان، كانت واقعية ومدركة لهذه اللحظة، لكن هل يوجد ضامن للسلام أم أننا أمام شهر عسل يسبق عملية السيطرة على أفغانستان، مما يقتضي في البداية تهدئة الوضع تكتيكياً مع الجوار. هل سيسهلون انتقال السلطة بطريقة سلسة، هل هناك ضمانات غير وعود المجاملات، هل تؤمن طالبان بالتعاقد مع الكفرة والروافض والمرتدين؟
– تغنّت النصرة وداعش بطالبان، وردد أتباعهما أنشودة: “سلامي على طالبان”. والحقيقة، إنّها كانت نموذجاً لداعش، انهارت داعش والنصرة وكان لا بدّ أن تستعيد طالبان الانتشار، لا يمكن أن ينهار كلّ شيء، ولا بدّ من الاحتفاظ ببؤرة مركزية للتطرف، وها قد جاء دور طالبان. المهمّ هنا، أنّ ما يبدو انتصاراً، وهو سيناريو آثرت حكومة بايدن اختلاقه، هو أيضاً مناسبة للكشف عن الحنين والولاء الخفيّ لطالبان. بعد أن تحوّلت فروع القاعدة إلى طرائد على الحدود السورية والعراقية وداخل اليمن ، وبعد أن بات من الصعوبة إدماجهم في دول الجوار، لا بدّ لهم من دولة، لا توجد غير إمارة طالبان لاستيعاب بقايا داعش والنصرة والقاعدة. كان ذلك متوقّعا.
-السؤال البدهي: ماذا يعني وجود إمارة متشددة على الحدود مع إيران؟ هل يتعلق الأمر بنوع من الاحتواء المزدوج؟ إنّها الحرب القادمة اليوم أو غداً، هي مسألة وقت فقط، أما أسبابها فهي متاحة دائماً، فطالبان لا يمكنها أن تعيش من دون حرب، والسلام عندها هو تنفيذ شريعة العقوبات وإدارة المجتمع بالتّشدّد، ولكنها ستظل حارسة مصالح واشنطن الكبرى، لاسيما ما يتعلق بقصة أنابيب الغاز التي فجرت حكاية طالبان منذ البداية. فحكومة المجاهدين يومها كانت تقترب من التوافق على أساس استقلالية القرار وحسن الجوار، جاءت طالبان لتدمر مكتسبات حكومة ربّاني وتصفي قادة الجهاد الأفغاني بدء من شاه مسعود وانتهاء بربّاني. طالبان برميل بارود قابل للانفجار، عودة المعارك العقائدية والقبلية كواجهة لمعارك الثروة والنفوذ الأوراسي.
– يفكّر الإيرانيون بواقعية، إنّ زمان طالبان آخوند زادة ليس هو زمان طالبان ملا عمر، يمكن نسيان الماضي، لكن طالبان لم تنس ملا عمر: مرجعيتها التّاريخية والمُؤَسِّس، لا خيار أمام طهران، هذا مفهوم، لكن هذا لا يعني أنّ طالبان اليوم حقّاً هي بطلة تحرير أو ملاك قادر أن يسوس أفغانستان بالتسامح والنّقاش.
فرق بين كتابة التاريخ وبين المُجاملة، هناك ما هو أخطر بالنسبة للتاريخ: تقديم شهادات زور على وقائع التاريخ.
– وسائل الإعلام تائهة في تشخيص الوضع، مردّ القسم الوافر من هذا التردد إلى تعدد مصادر التفسير وما يُقدمه إعلام جماعات المصالح (اللّوبي)، وجب على المؤرّخ أن يخضع الحدث وتفسيره الوظيفي معاً للتأويل، وسائل الإعلام هي نفسها أحداث وجب إخضاعها للتحليل. مهمة المؤرخ مضاعفة ومعقدة، وأعقد ما فيها أنّها وفية للحقيقة أكثر من المصلحة.
– وجود طالبان في الحكم قد يجعلها أكثر استعداداً لتفادي أخطاء الأمس، لكن هل طالبان تستطيع بناء دولة؟ هناك إذا بوادر تنفيذ سياسة الأرض المحروقة، كل ما يمكن أن نقوله اليوم، أنّ طالبان هي جزء من سيناريو يُحضّر للمنطقة، بالأمس كنا نبجّل حكومة ربّاني اليوم سنبجّل حكومة قاتله.
تقتضي السياسة تبلّداً في الذّاكرة، لا وفاء في السياسة، كذلك وجب الاعتراف: لا يوجد بديل يعوّل عليه. هذا لا يمنع من وجود خيبات أمل قادمة.
– عند تأمّل الحدث، نتساءل: ماذا في وسع الجوار أن يفعل؟ هل سيقتحمون أفغانستان؟ هل يملكون بديلاً غير محاولة الاحتواء؟ هذا هو الخيار الممكن الآن، لكن ماذا عن المستقبل؟ القضية هنا تجاوزت عقائد الطالبان وتصورهم للدولة والاجتماع والعالم، السياسة لعب يبلغ السّفح، مغامرة، لقد حُشر الجوار، لم تكن حركة طالبان حركة تحررية، بل وجودها المفاجئ يومها كان مناهضاً لمن اعتبروا منذ بداية الثمانينيات حتى حكومة رباني بالمجاهدين، هي جماعة وظيفية ذات بنية قبلية (البشتون). المصفقون لانتصار طالبان كحركة تحررية يسيئون لتاريخ حركة التحرر الوطني، ويلوثون سجّل الثورات الكبرى بانتصار وهمي لجماعة ظلامية وظيفية، وتوافقات ذات طبيعة قذرة. فالانتصار الذي آمنت به طالبان هو ما صرح به زعيمها آخوند زاده في التاسع من فبراير 2020، حين أمضى على اتفاقية سلام مع الولايات المتحدة الأمريكية، معتبراً ذلك انتصاراً للجماعة. ماذا يعني التصعيد بعد اتفاقيات سلام؟ حين دخلت فيت-كونغ إلى سايغون في ذلك اليوم المشهود، لم تكن قد وقعت اتفاقية سلام مع واشنطن، لا إشكال في التوافقات التي تجري بين الدول، لكن طالبان ليست دولة.
وفي اتفاقية فيتنام الشمالية مع واشنطن بباريس في 1973، لم تكن اتفاقية مباشرة مع جبهة التحرير الفيتنامية، ثم توحدت فيتنام على فكرة إيديولوجية تقدمية على طريقة الاتحاد السوفييتي والصين، وليس على أساس قبلي.
يسعى الهواة إلى القياس مع الفارق. السياسيون المعنيون باستراتيجيا الألعاب يجعلون من اللغة جزءاً من قواعد الاشتباك، لكن الهواة يسقطون في تقييم الحدث على مناخيرهم.
إنّ مستقبلاً أوراسياً حامياً ينتظر المنطقة. بالنسبة لبايدن، فقد أعاد اللعبة إلى المربع الأول وأبعد الجنود الأمريكيين كما وعد عائلاتهم إلى البلاد، لتبدأ الحروب من بعيد عبر الوكلاء. احلموا و”تحالموا”: سلامي على طالبان.
كاتب من المغرب