«فرح الدبيات» تدافع عن حقوق المرأة بـ«مسرحية»
منذ إعلان عرض «مسرحية» نص ودراماتورج «أمير أبو الخير» وإخراج «فرح الدبيات»، وبوستره الذي يضم ثلاث ممثلات ضمن بحرة بيت عربي قديم (تصميم محمود داود)، بدأت إشارات الاستفهام تفعل فعلها عما سيقوله هذا العرض، لتتكثف الأسئلة أكثر مع استقبال الجمهور كضيوف وتنظيم جلوسهم في ساحة البيت الواقع في منطقة طالع الفضة بالقرب من غاليري قزح، لنكتشف أن العرض بدأ منذ تلك اللحظة، فكل ما اشتغل عليه «تجمع هيك» المسرحي كان مدروساً بعناية ليضعنا أمام سينوغرافيا واقعية، لا يلبث سحر (أبو الفنون) أن يتغلغل إليها مع تبديل مناخ الإضاءة وظهور الممثلات الثلاث «لوريس قزق، مرح حسن، مرح حجاز»، لتتكشف اللعبة المسرحية شيئاً فشيئاً، ليس على صعيد الحكايات التقليدية عن زواج القاصرات، والنظرة الدونية للمرأة، واتهامها الدائم بأنوثتها وجسدها ومفاتنه واعتباره عورة أبدية، ووأدِها المستمر اجتماعياً وثقافياً وحياتياً، وإنما على صعيد الكيفية في تناول تلك الموضوعات، إذ لا تلبث الممثلات، بعد تجسيد موضوعة تزويج فتاة لم تبلغ الثامنة عشرة من رجل لم تره من قبل، بطريقة غروتيسكية، وخاصة مشهد الاغتصاب الذي جاء تجسيداً فكاهياً لمقولة «ينكب كرارها»، أن يدخلن في نقاش حامي الوطيس حول تفاصيل هذه القضية الاجتماعية ومدى تحريمها، ومن يتحمَّل تبعات هذا الجُرم الإنساني، الرّجل أم المجتمع أم الفقر؟ وغير ذلك من أسئلة تخلع فيها الممثلات شخصياتهن الذكورية منها والأنثوية، من أجل إثارة الأسئلة، ومحاولة وضع اليد على الجرح الغائر، وفق تقنية المسرح داخل المسرح، لكن أوامر المخرجة بالعودة إلى التمثيل تقف في وجه استمرار النقاش من دون أن يُحسَم. واستكمالاً للجريمة الاجتماعية تنتقل الممثلات الثلاث لتصوير مشهد الزوجة الحامل في المشفى وكيف ماتت بعدما علمت أن مولودها بنت، مع جدل بين الطبيبة النسائية والممرضة التي تتعرض للتعنيف من والدها باستمرار، حول حريات المرأة في تقرير مصيرها ورسم مسار حياتها، ومخاوف الضلع القاصر من التمرد، ليكون أقصى أحلام الفتيات هو أن يجدنّ ابن الحلال الذي يعتقهن من سجن الأب، ويضعهن في سجن بطعم عبودية من نوع آخر.
المشهد الثالث لا يتخلى عن النسوية في طروحاته، فالممثلة التي غفت في الكواليس بجانب البحرة، استفاقت بضربة مكنسة من عاملة التنظيفات البسيطة، ليتكشف نقص الحنان الذي تعانيه الممثلة في مهنتها الصعبة، ورغبتها في أن تحتضن أي بادرة إنسانية صادقة، في ظل العسف الذي تتعرض له في حياتها على الخشبة ومن دونها، كأنه لا يُراد لها أن تحيا سوى تحت ربقة ديكاتورية المخرج ودوزنته لانفعالاتها واختلاجات مشاعرها وفق رؤيته المتسلطة داخل المسرح وخارجه، وكأن في ذلك تجسيداً لمقولة الأسود الدؤلي «لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله.. عارٌ عليك إذا فعلت عظيم»، لكن هنا جاء هذا الفعل في خدمة مقولة العرض، لاسيما أن «مسرحية» أحالتنا بذكاء إلى خارج هذه الفسحة السماوية ضمن البيت العربي، لتترك أثرها على ضيوف العرض الذين لا يلبثون أن يندغموا مع المشهد الثالث لصَبيّة على أرجوحة بملابس أقرب إلى الطفولية، لكنها بعد مونولوج عن نظرات الآخرين الجارحة لها، وتعرضها للكثير من التحرشات اللفظية والجسدية، آثرت أن تُخفي جسدها بكلّيته عن الأنظار، فباتت تُخفي عينيها بالنظارات الشمسية، وجسدها بملابس فضفاضة تحجبها عمن حولها، وشعرها بقلنسوة كنزتها، وأذنيها بسماعات الرأس، لكن كل ذلك لم يوقف التحرش بها، فما كان منها إلا استخدام سحرها الأنثوي في استدراج المتحرش بعد تعرفها إليه، من أجل معاقبته، واستلام زمام المقاومة والتَّمرُّد على الكينونة التي وضعها فيها المجتمع، إذ نراها بعد قليل تخلَّت عن كلّ حجبها وتحوَّلت إلى مقدِّمة برنامج إعلامي يطرح قضايا المرأة ويدافع عن المستضعفات ويتعاضد معهن، بما يشبه تحريك الوعي الراكد، ومحاولة تحرير الأنوثة من أغلالها، من دون أن يعني ذلك أن القضية حُلَّت، فالتسلُّط ما زال يفعل فعله في كل مفاصل حياة النساء، وتأكيداً عليه في العرض تأتي أوامر المخرجة بمنع الممثلات من تخطي عتبة الباب الخارجي، وإيهامهن بأنه مقفل، لكن تمرد إحداهن جعلها تفتحه وتهمّ بالخروج، لتنتهي «مسرحية» بفسحة جديدة غير تلك التي أجبرن على الرضوخ لحدودها وسينوغرافياها وميزانسينها.
نجحت «فرح الدبيات» في إدارة هذه اللعبة المسرحية ضمن عرضها بكل ما تضمنه من تجريبية، كانت نتائجها موفقة مع كثير من المتعة، إذ اندغمت التراجيديا بالكوميديا بطريقة جميلة، وتم الاشتغال على تبديل الأدوار بسلاسة من دون فجاجة، كما استطاعت الممثلات الثلاث أن يتقمَّصن شخصياتهن بكثير من العفوية والإقناع، وبقدرة على تفعيل مكامن الألم ومصادر السعادة فيها، بحيث جاءت تمثيلاً صادقاً عما يدور خارج حدود البيت العربي، ولو بشخصيات فيها شيء من المبالغة، سواء على صعيد الأداء أو الملابس، وإلى جانب ذلك لعبت بقية عناصر عرض «مسرحية» من ديكور «محمد وحيد قزق»، وموسيقا «رامي الضللي»، وإضاءة «مجدي المقبل»، دوراً مهماً في تحويل الجمهور إلى شهود على مجريات العرض وما طرِح فيه من قضايا تمسّهم أحياناً وتدينهم في أحيان أخرى.