في الحاجة إلى تأويل نيتشه واستعادته
على هامش المحاضرة القيمة التي قدمها د. محمد أندلسي في المجمع الفلسفي العربي (الجمعة/30/7/2021)، والموسومة براهنية نيتشه، عاد رنين نيتشه عبر شذراته يحيل إلى جمال الطبيعة وهمسها العميق، وتارة كشظايا حارقة تحيل إلى لحظة القوة التي يتعين إدراكها من داخل التمثّلات المستبعدة لإرادة الحياة، حيث هناك يظهر جلال الطبيعة. لكن لا يمكن أن أدع هذه اللحظة تمرّ حتى أقول بعضاً مما يدور بخلدي حول نيتشه، ولا أزعم أنني أستطيع في عجالة أن أقول كل شيء هنا عن نيتشه.
أن تخلد حكمة نيتشه في شذراته، فهو علامة انقلاب كبير على أنماط بناء المعنى، والتمثلاّت السائدة التي توحي أحياناً بخروجه المبيّت عن النسق، بينما المبنى العميق والنسق اللاّمرئي هو كذلك حاضر في شذرات نيتشه حينما نقرؤه خارج تحكم الأنساق وشعوذة المنهج.
يوجد نيتشه هنا وهناك، في الأدب والتاريخ والجغرافيا والعلم والاجتماع. حيثما حلت تلك الشذرات فتحت الطريق وأزاحت سلطة الباراديغم. بالفعل ثمة إمكانيات عديدة لتأويل نيتشه، غير أن كل هذه المستويات من التأويل تستنفذ أغراضها، ثم تبقى شذرات نيتشه موحية. ينتهي فوكو وديريدا ودولوز بل قبل ذلك حتى هيدغر، لكن تستمر شذرات نيتشه، لأنها هي الأصل.
حرر نيتشه طريقته من الأنماط السائدة في القول الفلسفي، هكذا بدا ناطقاً بقواعد إرادة الحياة لا إرادة المعرفة، فحيث تبدأ سلطة الكاطيغورياس، يبدأ انحدار المعنى، ومن هنا تبدأ مهمة كسر الأصنام.
لكي نفهم نيتشه وجب أن نحرره من كل قراءة كما حرر نفسه من كل تأويل مسبق، هو محاولة مفتوحة تماماً كالطبيعة، صادحة، شاخصة كالجسد، علينا أن ندرك أوّلاً معنى إرادة الحياة، لا يكفي أن ندرك أنه وضعها في مركز الاهتمام، بل علينا أن ندرك أمرين:
– أن نفهم أنّ للحياة عند نيتشه مفهوم أعمق مما تدلّنا عليه إرادة وأخلاق العبيد.
– أن ندرك بأن قيمة أي شيء هو بقدر ما يسند إرادة الحياة وتسنده إرادة الحياة.
أما كيف نفهم نيتشه، فلقد دلّنا بعمق من خلال المعلم: شوبنهاور. مفهوم العالم كتمثل وإرادة، لكن أي معنى هنا للتمثّل؟
حين ندرك بأنّ العالم والواقع والحقيقة هي تأويل، من خلاله يتجلى نوع الإرادة ومستواها، التأويلات الممكنة هي وقائع، لأنّنا في لعبة المعرفة لا نفعل أكثر من التمثيل، من التقليد، ألم يقل علي بن أبي طالب يوماً: الأمور أشباه؟ يبدو هنا كل شيء عند نيتشه: الزمان والمكان والحقيقة عبارة عن استعارة.
إنها حقا كما في إحدى شذرات نيتشه وتحديداً في (le livre de philosophe)، بأنّ التقليد هو وسيلة كل الحضارات، حيث من خلال هذه الوسيلة تتشكل الغريزة شيئاً فشيئاً.
إنها إعادة تمثيل الطبيعة، المعنى هو طبيعة ثانية، أهمية الميتافورا. إن حقيقة المعرفة ليست سوى العمل على الاستعارة الأكثر جودة، وهي طريقة في التقليد لم نعد نشعر بها، بل لم تعد تشبه التقليد.
مهمة فهم نيتشه تبدو مع جاك ديريدا (Eperons : les styles de Nietzsche) كأننا أمام نيتشه قارئاً نيتشه، أي قراءة نيتشه بأدواته، بعد أن بات ممتنعاً أن يُفهم بأدوات غيره، هذا ما نلاحظه في محاولة قُرّاءه كديريدا نفسه، حيث نقف على الحقيقة ودلالة الحجاب، فالـ”سيمولاكر” الديريدي هو تعبير نيتشي في الأصل، عن تواري الحقيقة في متاهة التأويل، وهو إرادة القوة التي تجعل التأويل بلا حدود، التي تؤدي المعنى نفسه للمتاهة الهرمسية عند أومبرتو إيكو. إنها ظلال نيتشه حلّت في تخوم وثقوب الميتافيزقا الغربية في طور التّشظّي الميتافيزقي، في نوبة ما بعد الحداثة الكلاسيكية، التي قاومت كثيراً لتصمد في منتصف الطريق فقط مع نيتشه ومن حمل معول جينيالوجياه. لم يقف دريدا عند قراءة نيتشه فقط بل سافر في قراءة هيدغر لنيتشه، قراءة خضعت هي الأخرى للتأويل، بل هو ضرب من الإحياء النيتشي الذي أتبعه هيدغر في جرأته القصوى على الميتافيزيقا الغربية، ومعضلة نسيان الوجود وإعادة ترتيب التمركز الحقيقي لإرادة القوة.
في مهماز جاك ديريدا، ندرك أنّ نيتشه جرّب كل الأجناس. وبالعودة إلى المقارنة، وليس لنا في تأويل الواقع إلاّ المقارنة، أي التمثيل، قياس الحقيقة على المرأة، كأنّ المرأة الحقيقية غير مدركة، ولا يمكن الظفر بها –لا يهم مشكلات نيتشه الشخصية، ولكنه وظّف خبرته في المعرفة وتمثيل الحقيقة- تماماً كالحقيقة، وحين الظفر بها، لن تكون تلك المرأة إلاّ ساقطة في نظر نيتشه تماماً كالحقيقة التي نعتقد الظفر بها. من هنا تحريك المعنى ووظيفة التأويل. وكان نيتشه قد ناهض الحركة النسائية، معتبراً النسائية محاولة لتمثُّل الذكورة. ذلك لأن المرأة في نظر نيتشه غير معنية بالحقيقة، لا تجد حقيقة المرأة، بقدر ما أن الرجل هو من يعتقد بتلك الحقيقة: حقيقة المرأة، والمرأة- الحقيقة، بهذا المعنى، النسائية تسعى للخصاء أيضاً، خصاء المرأة نفسها كذلك، بتعبير ديريدا ، نستطيع أن ننظر في كل مكان لنجد نيتشه فيلسوف “الحمل”، فكما أنه سريع البكاء –يبكي بسهولة– فهو يتحدث عن فكره كامرأة تحمل بولدها، أتخيله –يقول دريدا– يذرف دموعه على بطنه.
في هذا التمثيل، لم يكن نيتشه ضد المرأة، هو كذلك بقدر ما هو ضد الرجل حين يحيط فكره بالزيف، يمكنني القول، ويا ليت قراء نيتشه يفعلون: هل كان نيتشه يبحث عن المرأة الفائقة؟ إنه في نظري وضع معياراً، بقدر ما نقترب من الطبيعة، من إرادة الحياة، يصبح كل شيء أدنى من الحقيقة، الحقيقة التي لا تُدرك بمنأى عن إرادة الحياة، الحياة هي الأخرى ليست حقيقية، فوجب البحث فيها عن كل نُبل وقوّة وجمال. البعد الصوفي لشذرات نيتشه، تصوف القوة لا الضعف، السعي بطريقة أخرى إلى مراتب الحقيقة وحسن الإنصات للطبيعة.
راهنية نيتشه مسألة لا غبار عليها وشخصياً أراها بدهية، لأنّ كل من جاء بعده إما أن يكون نيتشياً أولا يكون، بشكل كامل أو بأقل الأضرار الممكنة، أي متعمداً في الشجاعة من أجل مناهضة التقليد. لا أريد استعمال عبارة تمرد في مثال نيتشه، لأنّ التمرد لا يفي بالغرض: الثورة مفخرة العبيد –كما في هكذا تكلم زارادشت- ولكنني أعتب أن إرادة التأويل هي تماهي مع الطبيعة، هي بنت الحركة الجوهرية للأشياء، هي إرادة القوة نفسها.
الشجاعة من أجل التأويل، الأمور أشباه، المتاهة التي تشبه عملية إسقاط مستدامة للأقنعة عن محيّا الحقيقة. فالخوف من الظفر بالحقيقة المزيفة تتطلب مواصلة المهمة وخلق وقائع متدفقة، متجددة عبر التأويل.
وجب أن ندرك أيضاً أهمية الحجاب الذي لا يمكن من دونه أن تتشخص الحقيقة وتبرز إلى الوجود، وجودنا، واقعنا كتأويل، كتجلي تأويلي للحدث والشيء، إنها -الحقيقة- تقدم نفسها في ضرب من الحياء، وهي لهذا السبب لا يمكن أن تكون سوى حقيقة ظاهرية، سطحية، حيث إزاحة الحجاب عن الحقيقة يجعلها تسقط، وبأنها ليست حقيقة. إذا انزاح عنها القناع ، بدت حقيقة “ساقطة”.
راهنية نيتشه أيضاً هي راهنية هذا الذي يبقى في الحياة، الجسد وطريقته في المقاومة، حيث نشهد تشكلات للعقل وتأويلات، لكن يظل الجسد في نظر نيتشه أكثر ذكاء واقتداراً من العقل.
ونحن في كل عصر لنا جائحة تضرب الجسد، ويقارعها الجسد الذي يُؤمِّن الاستمرارية للكائن في وقت يتلكّأ فيه العقل ويظهر عجزه أحياناً.
نيتشه يعيدنا إلى شيء أساسي يتناساه عبدة المقولات، بل حتى مُعيدو قراءة نيتشه، إنه أصيل، أنصت لطبيعته العميقة، لمزاجه، لتجربته، ولأنّه رفض الزيف الذي يقبع خلف سلطة الخطاب.
لا يمكن إنهاء العملية التأويلية الخاصة بنيتشه: هل هو مؤمن أم ملحد؟ هل هو فيلسوف أم فيلولوج؟ هل هو طاغية أم عادل؟ إنه إذاً بتعبير ديريدا مجرب كل الأجناس. وجب أن نؤوّله، ولكن تأويله يتطلب معرفة دقيقة بسياقات نيتشه، بسياقات مؤوّليه، بطبيعة عنف المعنى السائد وسلطة الخطاب المهيمن. لا نستطيع تقدير الأشياء وإلاّ سنجد هناك تعبيرات مستبعدة دائما في تأويل نيتشه، بل إنّ الخطورة تكمن في زيف تأويل نيتشه، في تهريبه إلى سلطة المقولات مرة أخرى. ولأنه تعرض لسوء التأويل، بات راهنياً أكثر من خلال محاولات مفترضة.
في العالم العربي، تساءلت من قبل: هل يوجد نيتشه عربي؟ في إمكان وجود نيتشه عربي؟
يوجد ديريديون أو فوكونيون أو دولوزيون، أي نيتشييون بالوراثة للأب الروحي، في المقابل هناك من أعاد إنتاج نيتشه بطريقة تحقق معها مبدأ قتل الأب –أعني القراءة النازية- لكن هل يا ترى تستطيع بنيتنا العربية إنتاج نيتشه عربي؟ ماذا يعني نيتشه عربي؟
إنه يعني البحث المضني عن الحقيقة خلف توالي الأقنعة، سفر في المتاهة الهرمسية للحقيقة، وحتى الظفر غير المحدد بها ، علينا إبداع التأويل وفق الميتافورا الأكثر جودة، البدء من همس الطبيعة، إرادة الحياة باعتبارها المخرج من انهيار المعرفة داخل مقالب إرادة المعرفة، إنسان شوبنهاور المعلم بدل إنسان روسو. في نبضنا، وتعاليمنا المستبعدة، خبراتنا المحلية، نستطيع الوقوف على شذرات إرادة القوة، يمكن أن يولد نيتشه من رحم ضعفنا وانهيار الحقيقة في “المُنْتَحر” العربي، حيث كل ما فيه يعزز انهيار الحقيقة، وغياب التأويل، وميتافورا غير مقنعة، أي العجز حتى عن جودة التمثّل والتمثيل.
كاتب من المغرب العربي