في المسألة التونسية.. أهو انقلاب أم تصحيح مسار انتقالي أم ماذا؟
ليس دخول الثورة مثل خروجها، فلقد دخلت تونس في هذا الرهان التّاريخي، وداخل هذا الالتباس، وكان من المتوقع أن تواجه صعوبات الانتقال الديمقراطي، صعوبات تفرزها شروط المرحلة الانتقالية، وصعوبات تفرزها حالة الصراع على السلطة.
أحياناً تصبح الهشاشة طريقاً للفوضى السياسية، وعائقاً ضدّ بلوغ الديمقراطية الحقيقية التي يفترض أن تكشف عنها النيات أكثر من صناديق الاقتراع.
في خضمّ ما يجري اليوم في المنطقة -وليست تونس سوى مثال- لا يمكننا تجاهل موقعنا في هذا الكون السياسي.
فيما يعنيني، لا أستطيع قراءة الأحداث ببراءة، ذلك لأنّ حصائد السياسة هي أفضل تعبير عن الهشاشة، غير أنّ الديمقراطية والهشاشة لا تتفقان، وحتى الدستور لا يكون حاسماً، لأنه دائماً وفي كل مكان، وليس في تونس فقط، هو وثيقة أسمى وعنوان السيادة، ولكنه أيضاً قابل للتأويل، إنّ الدرجة الصفر لكتابة الدستور لم تتحقق، هناك دائماً جيوب رخوة للتأويل، وهناك يكمن شيطان الرّدة. لكن حتى لا نخرج عن فحوى الحدث: من يا ترى يملك في مثل هذه الحالة أن يتهم الآخر بخرق الدستور، وتقييم العملية التأويلية؟
لقد انتقل الإخوان من مرحلة “دستورنا القرآن” إلى مرحلة “قرأنة الدستور”، وهي نقلة نوعية لا يمكن تفسيرها إلاّ بإرادة التدليس. أي ما يجوز ومالا يجوز في التأويل، تأويل للدستور تمارسه النهضة من باب (ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)- أي (النهضة)، وتأويل آخر مرفوض ومذموم يدخل في (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)- أي (قيس سعيد)، هذه هي المعادلة التي يريد قادة حزب النهضة أن يكرسوها كحقيقة سياسية في تونس: تأويلنا مشروع وتأويلكم مذموم، وكل شيء يجري هنا بلغة الوفاء لديمقراطية لم تمارس بوفاء.
إنّها الديمقراطية، تُثار مرة أخرى في البيداء العربية، حتى باتت حدثاً أكثر مما ينبغي أن تكون فلسفة حقيقية.
السياسة في الوطن العربي ضربة حظّ قصوى وحالة تكييفانية مورفولوجية. ذلك لأنّ الديمقراطية تطرح أمامنا إشكاليتين:
– الإشكال الفلسفي المتعلّق بالمأمول السياسي في أفق التأملات المجردة للاجتماع السياسي المأمول، بتعبير كانطي، إنه سؤال: ما الذي يجب فعله؟
– الإشكالية المتعلقة بالممكن السياسي بلحاظ الوضعية الإثنو- سياسية في المجال العربي، الواقع والمتوقّع، الذي يضعنا أمام مظاهر مجتمع اللاّ-دولة، فالرّدة هنا إن شئت هي بالمعنى الدارويني الاجتماعي، تعني بروز الملامح البدائية للاجتماع، ومفاد هذه الإشكالية يتلخص في سؤال: ما هو الممكن فعله؟
لا زالت الديمقراطية مثار جدل في معاقل الغرب: معقل التنوير وتاريخ الثورات السياسية، فلسفة واجتماع. هل الديمقراطية مكتملة؟ هل جاءت بالمساواة المأمولة؟ هل عملية الانتخاب تأتي بالأفضل بالفعل؟ قد نستدل من باب الأولوية القطعية مع هبرماس، بأنه مادامت الحداثة غير مكتملة، فالديمقراطية من باب المفاهيم ليست مكتملة. ولكن هل هناك سير تاريخي منطقي لكمال الديمقراطية وتنجّز الأحداث.؟ لعل هذا ما فجّر المشكلة السياسية حول مصير القيم ومنها العدالة، ودور المؤسسات في تحقيق القدر الممكن من الإنصاف إن ذهبنا إلى المخرج الراولزي.
ستتعقد المشكلة أكثر حين نصبح أمام شكل آخر من التنزيل، في مجال إثنوغرافيا هو مجال اللاّدولة بمعناها الأنثروبو-سياسي، مجال يحتفظ بكل القيم العصبية المحلية حيث في المجال العربي تتكثّف المعضلة لكونه:
– مجال لجريان الشكل الكولونيالي للنسق السياسي، غياب السيادة والقرار، رهن الاقتصاد للباترياركية النيوكولونيالية، ويُضاف إلى ذلك الخصائص السوسيو-ثقافية العربية. هذا يضعنا أمام مفارقة الديمقراطية في مجال اللاّدولة.
حين نشير إلى دور المؤسسة في حماية القدر المتاح من العدل والتوزيع الديمقراطي للثروة والرأي، فإننا نتجاهل الهشاشة التي تضرب البنيات والمؤسسات أيضا. وعليه، سيكون من الأهمية بمكان أن نبحث عن مفهمة مختلفة ونحن نحلل وضعية ما يسمى بالتراجع عن الديمقراطية، من دون أن نستحضر البنيات والخصائص الاجتماعية والتاريخية والإقليمية.
ما يحصل في تونس، هو مثال مصغّر لما تعيشه بلدان عربية كثيرة، نزاع يختفي خلف تصورات مكتملة تنظيراً، لكن تتجاهل هشاشة البنيات الاجتماعية والمؤسسية، لأنّ الديمقراطية لا تبنى في بيئة الفقر والتهميش وغياب العدالة الاجتماعية وصراع الطبقات وتخلف الثقافة وغياب السيادة والقرار. الحديث اليوم في تونس عن الدستور، وكأنّ حركة النهضة المدعومة من تيار الإخوان على امتداد البلاد العربية- آخرها موقف الاتحاد العالمي للعلماء- هي حركة ديمقراطية لا تسعى لتحقيق الهيمنة على المجال العربي خلف لعبة الديمقراطية الانتخابية التي لم تعد تكفي مطلقا لمعالجة هذا الشكل من الهيمنة. سيكون من غير المنطقي استحضار وجهة نظر حزب النهضة في ما حدث ولا حتى رأي حلفائه، كما تحدث الرئيس السابق، المرزوقي، الذي اعتمد على هذا التمكين السوبر- ديمقراطي فيما قبل. بل المطلوب هو قراءة الحدث بشكل يستحضر معضلة الديمقراطية في بلد عربي يواجه موجة فظيعة من عدوى كورونا، ومن حالة البطالة، وانهيار الاقتصاد، والمشاكل الأمنية.
يزايد قادة النهضة بالديمقراطية التي لم يؤمنوا بها إلاّ تحت طائلة إكراه وميل: إكراهات زمن بن علي الذي دفعهم لركوب مفاهيم الديمقراطية كمفاهيم أدوية لبلوغ السلطة، والميل هنا يتعلق بالتكيف الأقصى مع قيم الديمقراطية بناء على التمكين المسبق للرعاية الدولية لحكومات الإخوان كبديل حصري لموجة “الربيع العربي”، كانقلاب استباقي لسرقة ثورات لم يكونوا طرفا فيها فاعلا إلى في وقت متأخر ومن بعيد.
سيكون من المبكر اختزال ما أقدم عليه الرئيس التونسي في كونه رغبة للاستبداد، ذلك لأنّ منافسيه تحركوا كالجراد للسيطرة على المشهد واحتياز السلطة والتغلغل في كل المؤسسات. إن قضية الدستور هنا تتيح لعبة التأويل. وقد لا يرى قادة حزب النهضة أن هناك ما يدعو لتنفيذ الفصل 80 الذي يتيح للرئيس القيام بما يشبه سياسة الاستثناء، غير أنّ يوميات التغلغل في المشهد وتهريب المصير التونسي نحو مشروع حزب النهضة، قد يكون جائحة سياسية تستدعي ثورة تصحيحية، لا يمكن أن يقوم بها إلاّ رجل مثل قيس سعيد. أعني بالتأكيد، أنّ مسار أخونة المشهد التونسي، لم يعد يقتضي تدافعا سياسيا بين القوى، بل يتطلب تدخلا من الدولة نفسها، وهذا أولوية تقتضي الاستثناء، وهو ما ستكشف عنه التداعيات الآتية.
الاستثناء في تونس ليس خطرا، بل هو أمر مطلوب منذ فترة، فالحياة السياسية بلغت الباب المسدود، وداء السكري الذي يمثله تيار النهضة يتغلغل في صمت داخل الجسد التونسي الجريح. صناديق الاقتراع لا تكفي لتصحيح المسار، ثورة جذرية لن يكون لها معنى بعد أن تحققت ثورة الشعب التونسي، إنما قد ينتج عن صراع عميق وحقيقي بين الإرادات السياسية حدث يتعين أن يستغل أفضل استغلال.
أمام قيس سعيد فرصة لاستعادة الثقة، وذلك بتمكين الحياة السياسية المدنية من فرصة، وذلك من خلال البدء في إجراءات حكومة إنقاذ وطني. لا مخرج إلا بمنح القوى التي لا تحظى بتمكين إقليمي أو دولي فرصة لتحقيق التوازن. ومن ثمة إقرار ميثاق وطني للمستقبل يحمل روح الثورة التصحيحية مدعوم باستفتاء شعبي. هل يا ترى قيس سعيد في مستوى أن يُغالب تيار النهضة بإجراءات ديمقراطية متقدمة، أي منح الثورة التصحيحية قواما ديمقراطيا يمنح تونس فرصة لولادة ثانية على أرضية إقلاع وطني؟
لا يمكن لتونس أن تقاد من مستشارين- دعاة، من داخل الاتحاد العالمي أو من الباب العالي، بل ما كان بإمكان قيس سعيد أن يقدم على ذلك لولا معرفته المسبقة بأنّ هناك شريحة من المجتمع التونسي ترى فيما فعله تصحيحا للمسار.
كل التعللات التي نشهدها وإن أحسنا فيها النية، فهي تنقل السردية التقليدية لتيار النهضة، أي محاربة التصحيح بلغة ديمقراطوية مضللة.
أمام قيس سعيد فرصة إذن، تاريخية، لأنه هو وحده في معركته مع النهضة يعبّر عن قيم الثورة التونسية. فما يعتبر سرقة للثورة هنا مغالطة، لأنّ من سرق الثورة استقوى بالنفوذ ، والمال، واستغلال لاهوت-التمكين في بسط السيطرة على المؤسسات والمرافق الأساسية للدولة. الحلم الأزلي بأن تكون للإخوان دولة عن طريق سياسة الإغراق والتغلغل. حين تصبح البيئة خاضعة لقانون التمكين وشبكاته وفرض قواعد اشتباك سياسي مختلف، لن يكون لصناديق الاقتراع سلطة محايدة، وهنا، لا بدة من أن تصحح الثورة نفسها عبر عملية قيصرية تقع تحت سقف الدستور نفسه، عملية كانت تونس في حاجة إليها.
ليس بالضرورة أن تبدأ ماكينة الترهيب والتخويف، وقياس المشهد التونسي على المشهد المصري، مع أنّ قراءة الوضع باختزالية تتجاهل محنة شعب يختنق بذات الشعارات التي رفعها في ثورته، قبل أن يتم احتواؤها من قبل حزب موصول بمشروع خاص. لا يمكن للديمقراطية أن تكون بكماء، وما حصل إن هو سلك مسلكاً تحررياً سيمكن الشعب من تصحيح مسار ثورته ورسم أفق واضح لاستئناف عملية الانتقال الديمقراطي، فسيكون هو الطريق المنقذ للديمقراطية نفسها، مادام أنّ التأويل الرخو للدستور هو تقليد مارسته القوى الأخرى، وحتى داخل البرلمان الذي يهيمن عليه حزب النهضة.
يخشون من أن تقود العملية إلى وضع أفضل، أي إرساء اللعبة السياسية على قواعد جديدة لتمكين القوى المستبعدة من التعبير عن نفسها. فالإخوان باعوا الأمن القومي للناتو مقابل السلطة، وهم فشلوا في التدبير. وتبقى المفارقة هنا واضحة: هناك من يناهض الإخوان في بلد لكنه يتحالف معهم أو مع حلفائهم في بلد آخر. فالإخوان -وأستعمل العنوان العام- هم اليوم يراهنون على احتلال السلطات في الإقليم العربي، وهم يدركون أنّهم فقدوا الكثير من عناصر القوة، وقد دخلوا في مرحلة التدليس والاختراق الناعم وتغيير الأقنعة، وهم في هذا يستغلون ضحالة الوعي السياسي على امتداد الإقليم، كما يتحركون خلف أقنعة الديمقراطية في لعبتها الانتخابوية.
نتوقع تدخلات كثيرة في تونس لإنقاذ مصير النهضة كدولة داخل الدولة، تدخلات ممنهجة من قوى ودوائر إقليمية، ليس أمام قيس سعيد سوى أن يلوذ بضرب من الديمقراطية الشعبية والتمترس بالقوى السياسية الحية في تونس، لاسيما الأحزاب التي يهمها مستقبل التعددية السياسية في تونس خارج منطق الهيمنة والتسلط واحتلال مواقع القوة.
سيرى البعض أن ما حدث هو مخلّ بالمكتسبات الديمقراطية، لكن تونس منذ الثورة كانت تواجه تحدّي الهيمنة. لا يستطيع قيس سعيد أن يستبد بالأمر، لأنه في السلطة وليس منقلبا عليها، بل تمسك بصلاحيته وبتأويل جريئ للدستور يراعي أهداف الثورة ولا يناقض روح الدستور الذي وجب الارتقاء به إلى روح الثورة التونسية.
لا يمكن استئصال تيار النهضة أو استثناؤها من العملية الديمقراطية، لكن هذا لا يعني غياب سياسة تحصين الديمقراطية من الأساليب السرية لهذا التيار للهيمنة على مشهد سياسي يعاني الهشاشة.
ستظهر قراءات مبنية على نظرية المؤامرة، تلك النظرية التي كان الإخوان يرفضونها طيلة العشرية الأخيرة. وجب الانتظار قبل إصدار أحكام قيمة على الحركة التصحيحية التي تتطلب اصطفاف القوى الحية خلف قيس سعيد، الرجل الذي تخشاه النهضة وقادتها وحلفاؤهم في المنطقة. لا شيء سيكون غير طبيعي، سيدرك تيار النهضة أن خيار المواجهة مستحيل وسيكون مضعفا لموقفه ومعجلاً بتدخل عسكري يعرف الإخوان جيداً ما الذي يعنيه بالنسبة لمصيرهم السياسي، وفي أفق التحولات التي تشهدها المنطقة، سيرضخون تحت طائلة الواقعية السياسية لتفاهمات، سترعاها قوى إقليمية لا محالة. هناك رهانات خاطئة على الإخوان، تسعى لاستنقاذهم من ضعفهم السياسي، كمن يُمكِّنهم من الانتقال إلى مرحلة الخطر المستجد، وهو رهان سينتهي لا محالة إلى فشل ذريع ونتائج وخيمة على المدى القريب والمتوسط. ما يجري في تونس هو أكبر من نزاع سكولاستيكي حول الديمقراطية والدستور.
كاتب من المغرب العربي