في صمت “علي النوري”

استقبلني بإيماءةٍ بالرأس نحو الأسفل مع حركة يد تُوحي بكلمة “تفضلي” رغم أن الضيف الذي اختار مسرح القباني لإجراء حوار معه، لم يصل بعد. لم أكن أعلم قبيل لحظات فقط بأن علي النوري “أبو رضوان” حارس المسرح فقدَ صوته مجدداً، ولأن لطف الرجل وسماحة نفسه يرتسمان على وجهه أقوى من أي تعبيرٍ آخر، بحيث لا تدري هل هو راضٍ فعلاً أم يائس، لم يكن أمامي الكثير لأفعله، سوى أن أصمت.
يعرض عليّ تبادل الكراسي لأصبح أقرب لهواء المروحة المعلّقة في السقف، أتذكر فجأة أن الرجل ينام في إحدى غرف المسرح بعد أن فقد بيته منذ أعوام، يخطر لي سؤاله “أما زلت تنام هنا؟”، أتراجع ربما يبدو سؤالي فجاً في أول لقاء حقيقي مع رجل يصعب وصفه وتنميطه كما درجت العادة في الحديث عن المسرح وجمهوره، هل يعرف أبو رضوان مسرحاً آخر، خشبة وشخصيات وأصواتاً غير التي نعرفها، كيف يبدو المسرح حين يصمت كل ما فيه؟.
قبل عامين فقدَ أبو رضوان صوته للمرة الأولى، قيل وقتها إن الرجل حزين، لعلّه كان غاضباً، لم يجد مفرداتٍ توازي هول الكارثة فاختار الصمت. اليوم أيضاً يبدو الصمت أجدى من أيّ كلامٍ يثرثر به الناس على شرفات بيوتهم أو بانتظار السرافيس والباصات، أكثر استسلاماً إن كان للقهر درجات أو ربما أكثر فزعاً أمام الفجيعة. يقطع الرجل صمتنا، ليعرض عليّ هذه المرة “كاسة شاي”، وحركات يديه تشرح لي أن تحضيرها لن يستغرق سوى دقائق.
يحضر ضيفي، أُراقب أبو رضوان يتحرك بأريحية في المكان، يتجاوبُ مع عمالٍ ينقلون قطعاً من الديكور بالأسلوب نفسه، يبتسم أو ربما شُبٍّه لي، يفتح فمه محاولاً قول شيءٍ تُترجمه يداه. إلى متى سيطول صمت أبو رضوان هذه المرة؟، هل يرجع الصوت بالحب أم بالدواء، هل تُعيره الخشبة أصوات من عَلوها؟، حتى يأتي الصوت من الحلق أو القلب أو الروح، سيبقى أبو رضوان حارساً حقيقياً للمكان الذي يُحب.
في طريقي إلى الباب، يُودعني بإيماءة، أُومئ له بدوري وأخرج إلى خشبةٍ تمتد في كل الجهات.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار