اللحظة التأويلية لفعل الكتابة

إنّ الكتابة محاولة، وهي فوق كل ذلك شكل من أشكال انحطاط الفكر. لا يعني هذا أنه يوجد شكل أرقى من الكتابة من حيث أنّها ليست وعياً خالصاً.

كانت اللغة دائماً تعني الشيء الكثير، أحياناً تغطّي على الفكر وتتجاوزه.. اللغة هي مأوى الوجود هيدغيريا، لأنّها هي حقل ممارسة الحفر الإيتيمولوجي للتحرر من الميتافيزيقا، واستعادة ذاكرة الوجود. وهي الرابط بين المتعالي والتشخّص في الدرجة الصفرية للكتابة لرولان بارت، حيث المطلوب التحرر من كلّ الدوافع المقيدة للفكر. إنّ الفكر لا يقدم نفسه في الكاتبة مجرداً، بل سرعان ما يتحوّل إلى مُلاوغة، أقصد بذلك امتثالاً لشروطها.

هل يا ترى، الكتابة تخدعنا؟ هل نعيش بمسمّى فكر تقضم منه الكتابة الجزء الأكبر ؟ ما جدوى الكتابة إذاً؟

هذا التحدّي يفرض أن ندرك وظيفة الكتابة باعتبارها فرصة، وأعني بالتحديد أنها فرصة للتأويل. إنّ الكتابة ليست الشكل النهائي أو المجرد للتفكير، بل هي في معظم الأحوال ضرب من الخيانة، يقتضي ربط الكتابة بالكاتب ومقدار شجاعته من أجل المعرفة والوجود. تساهم اللغة في خيانة الفكر. هنا يصبح التأويل قضية مركزية في ديمومة الجدل بين المنصوص والمقروء.

لا زال النص ملتبساً حتى تتحقق القراءة، يكتمل المعنى بجدل المنصوص والمقروء. هنا يصبح المتلقّي جزء من عملية تشكل المعنى على هامش المنصوص. إنّ التأويل هو محاولة لاستعادة ما تستبعده اللغة، وما يتوارى خلف المنطوق، وما يسكن في قعر المفاهيم، إنّه إستراتيجيا لمقاومة اللّغة.

في لحظات اليقظة التأويلية، يستطيع الكاتب نفسه أن يهدم هيكل اللغة ويصعد الوعي بأساليبها القاضية على نقاء الفكر، حين تصبح اللغة مشتبكة مع الحدث وثائرة على نفسها بالتحلل من ديكتاتورية اللغة، باستنطاق الصمت بين مقولاتها وقواعدها، أي مقدار الصمت في القراءة، الذي يمنح القارئ مساحة تختفي فيها سلطة اللغة ويشتغل فيها الفكر المجرد. هذا يقتضي فنّاً تعبيرياً جديداً يسعى قدر الوسع لحماية الفكر من اللغة.

في مرتبة التفكير أو لنقل مرحلة الثبوت، لا شيء يحدّ الفكر، لكن في مرحلة التنزيل والإثبات، يستجيب الفكر لمقتضيات التنزيل، وأهمها التنزيل اللغوي للفكر، فيصبح محاطاً بحدود ومشروطاً بأنحاء ظاهرة وخفية للغة، باعتبارها هي الأخرى مشروطة بقوانين تاريخية واجتماعية وثقافية.

الكتابة هي في نهاية المطاف خيانة للفكر وشكل من إعادة إنتاج، وهذا ما يفسر تقادم النّص وانغلاقه، ولكنه يستنفذ أغراضه الوظيفية ويحتفظ بأسراره التي لا تموت. هنا أهمية القراءة المستديمة للنّص، نصّ يموت كاتبه وتموت وظيفته وتضمحل شروطه التأسيسية، لكنه يظلّ مشروع قراءة، وأرضاً خلاء مغروسة بالألغام.

لا تقدّم الكتابة الفكر كما هو، بل تخضعه لحساباتها وشروطها، وهي تتذرع بالبيان مع أنّ الوظيفة الأخفى لها هي الإبهام. تسعى اللغة لإخضاع مخرجات التفكير إلى جدل الظاهر والباطن، أو بالأحرى جدل الممكن وغير الممكن. إنّ النصوص مهما بدت غبية أحياناً هي فرصة لإنجاز المهمة الأكثر ثورية في مجال القراءة، وهي التأويل. إنها ضرب من الأركيولوجيا التي لا تسافر بنا في أعمال المشتق، بل إنّها تخرج بنا إلى ما قبل اللغة، إلى لحظة التأمل الأقصى الذي يلتقطه حدس القارئ فيعيد قراءة النّص بإيحاء مختلف.

أهم الكتابة ما كان يخلو من الخداع، على الأقل خداع اللغة التي تستهين بحدس القارئ، أو تلك التي لا تستفز ميله إلى التأويل وقراءة ما بين النصوص. تكون الكتابة حينئذ فقط وفقط كتابة تأويلية، وهذا هو ما نسمّيه أيضاً: اللحظة التأويلية لفعل الكتابة نفسه، أي الكاتب كقارئ ومؤوّل ينشئ ممرات سالكة داخل النص لقراءة أخرى ممكنة، يحمي النّص من شروط اللغة عبر زرع ألغام أمام اللغة نفسها، يستهدف قارئاً خاصّاً، بحيث يجد علامات طريق مزروعة بعناية في طريق استكشاف المعنى، خريطة طريق مخبّأة في إحدى زواياه، الكاتب كدال على ما ليس ممكن التفكير فيه.

كاتب من المغرب العربي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار