السياسة والسحر

السؤال الذي يتحاشاه علم السياسة هو: هل يوجد سياسيّ حرّ؟

يبدو من خلال اختلاف المصالح أنّنا إزاء اختيارات سياسية، غير أنّنا لا نلتفت إلى معضلة غياب الوعي التاريخي الذي يجعل السياسي لا يعي موقعه في أي سياق ثقافي وقيمي، وبالتالي يصعب عليه التحرر من هذا التجاهل الذي يجعله أعجز عن تحقيق الرغبة الويبيرية بخصوص الحياد القيمي (La neutralité axiologique ).

بالنسبة للباحث السياسي، فهو حتى اليوم عاجز عن التحرر، ولا زالت دعوى ماكس ويبر مجرد دعوى غير منجزة. غير أننا في سياق الفاعلين السياسيين، نكون أمام وضعية أخرى، حيث نعيش أقصى التجاهل للقيم المحلية ذات التأثير المباشر وغير المباشر، ما يجعل الخطاب السياسي هو مسلسل من البيانات، والبلاغات، وتراشق مخرجات بيئة قيمية ومصالح.

أعود إلى أصل الدعوة التي لا زلت مصراً عليها: ضرورة إنشاء إناسة خاصة بالباحثين في قطاعات العلم والمعرفة ومنها السياسة، أي علم يعنى بموقع الباحث داخل بيئة قيمية، وكيف تنظر منظومته القيمية للإنسان نفسه. إنّ إنصاتاً دقيقاً لما يتناهى إلى مسامعنا من أشكال الخطاب السياسي والتحليل السياسي، يزيدنا قناعة بأهمية إخضاع التحليل السياسي المتداول في وسائل الإعلام العربية إلى درس الأنثربولوجيا السياسية، ودور السحر والأيديولوجيا في تطويع الحقائق.

لا زالت قنواتنا تعاني من عقدة الثباتية، وكذلك هي قنوات غير مثقّفة وينقصها التوجيه العبر-مناهجي، لأنّها فضلاً عن زبونيتها، هي غارقة في تجاهل الحياد القيمي، ومصابة بالمنخولية الثقافية. بل أحيانا هي جزء لا يتجزّأ من تجارة الأزمات. وهي وفق المقاربة التفكيكية لا تختلف في بنيتها الأنثروبو-تواصلية، لأنها تعتمد الحسابات، والقيم، والتقنيات نفسها. إن الكذب، لعبة ليّ الحقائق، الخداع، النزعة الثباتية والسيكولوجيا المرضية.. هي نفسها. تخفي الديماغوجيا كل تلك الأعطاب، وتستدعي جمهوراً غير مختص في جينيالوجيا خطاب يستند إلى بيئة قيمية مشتركة في تدبير الحقيقة والوفاء للمغالطة.

يصبح السياسي نفسه موجهاً من الإعلام: وسائله وجمهوره، يفقد القدر الممكن من التحرر في تكوين الرأي. المطلوب هنا هو الفكرة التي تحددت ملامحها مسبقا. فحيث لا يوجد إعلام حرّ لا يوجد سياسي حرّ.

يبدو التطبيق العقلي العربي الراهن غير آبه بمصير علم السياسة، إنّها حرفة لوصائف في منظومة ناجزة. سيكون عدو الإعلام والسياسة في بيئتنا العربية هو الفكر والعلم والوعي التاريخي، وكل ما من شأنه تحرير السياسي من التأثير الذي تفرضه البيئة المحلية وقوى المصالح.

يتقاسم الفرقاء إرادة الدعس على الآخر، هي سلوك مشترك بين الفرقاء المتخاصمين. الرغبة، المصلحة، الشخصنة، كلها تدار وفق معجم لفظي مغاير. لا يوجد في حقل السياسة من هو على خطأ، ذلك لأنّ ذمّة التبرير واسعة، وتآكل الضمير في عالم اقتحمت المغالطة حرم النظر والعمل: قيم بلا ضمير، قيم أشبه بكليشهات لملأ الفراغ التواصلي، ووصل تجاري عند تبادل المنفعة.

وجب القول إذاً، إنّ البيئة التي هي نتاج تاريخي لتواطؤ الجهل والتخلف والإهانة والاستعمار والاستبداد واللاّمعنى، لا يمكنها أن تنتج قواعد تفكير سياسي قادر على تحقيق رغبة أمم فقدت حتى أساطيرها. فالعالم اليوم يعيش وضعية المتاهة. فالدّال يتلاشى قبل أن يسلم المشعل للمدلول، والمعنى مُزرئمّ. فالسياسة تنشأ في حقل دلالي زريم.

هل المحلل السياسي حرّ؟ إنه جزء من حقل دلالي كما قلنا، وإذا كان جاهلا بالعلاقة الجدلية مع قيمه التي تمارس عليه من دون كلف أو شعور، فهو جزء من صياغة معنى منقبض، يتلاشى فيه الدال قبل أن يحقق المدلول منتهى البُلغة. نحن لا نعيش عالما أيديولوجيا بالمعنى الذي نملك أن نمسك بالمشترك الذي يجمع الأيديولوجيا بالمعرفة في تقاطع ما أو التفافة ما، بل نحن نتجه نحو عالم يستعيد علاقته السرّية بالسّحر. عالم السحرة، عالم تتحوّل فيه السياسة إلى خداع لغوي وبصري، شعوذة ودجل، لعنة وهواجس، وربما عقاقير وأعشاب للتحشيش، فقدان التعليل والمنطق والمعنى، أي السياسة وقد اقتربت من أن تصبح أفيون الشعوب.

كاتب من المغرب العربي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار