بؤس الموضوعية..العلم مناهضا للحياد
لا زال مفهوم “الموضوعية” في التداول الجزافي -غير العالم- يثير مزيداً من القرف الإبستيمولوجي لدى النبيهين الذين يمتلكون حدساً خاصاً حيال أعطاب المعرفة الخفية، لأنها باتت تساوي أن تقول شيئاً لكي لا تقول أي شيء.
حين نسعى لوضع مفهوم منبعث من حقل دلالي شديد التعقيد على أساس هذا التبسيط والمزايدة في مزاد غير علني، فهذا يعني أن الموضوعية باتت آلية في طريق النصب والاحتيال المعرفيين.
أختبر جدّية الفكر وذكاء المفكر في موقفه من هذا المفهوم الذي كشف في الآونة الأخيرة عن إسفاف غير مسبوق. إنه بات يسبقنا كسائر لوازم الكلام غير الخاضع للمراقبة. ما معنى أن تكون موضوعياً حسب التداول المغرض لهذا المفهوم؟
غالباً ما نستنبط من سياق الاستعمال الفاحش لعبارة موضوعية التي نزلت إلى التداول شبه العامي ما يساوي العلمية والمنهجية، وباتت الموضوعية تعني الحياد؟ ومع أنّ الحياد ليس شرطاً في العلم والابتكار، بل الحياد مسألة أخرى تتعلق بميول، وإرادة، وسياقات، فإنّ الخلط بين الحياد بمعناه الأخلاقي والحياد العلمي، قضية لا زالت تمتنع عن البحث، نظراً لأنّها باتت أيديولوجيا جديدة تختفي خلفها إرادة جامحة للكسل العلمي فضلا عن مآرب أخرى.
دعني أؤكد هنا بأنّ ما يسمى الحياد هو أكبر أكذوبة في العلم، حتى الرياضيات والفيزياء ليست مجالاً للحياد. وتكشف فيزياء الكوانتم استحالة الحياد في أنظمة قياس السرعة والوزن، لأنّ المُعاين هو طرف مؤثر في القياس، بل في اللغة التي يجعلها الكلام تكتسب ماهية المتكلم، والتأويل الذي لا يستغني عن المؤوّل في متاهة هرمسية يُعززها السيموزيس.
الكائن البشري ليس روبوت، وحتى الروبوت ليس محايداً.. ماكس ويبر استبعد هذا النمط المثالي والإطلاقي للموضوعية، وتحدث عن الحياد بمعناه الأخلاقي. لكن هناك من لا زال يصر بأنّ كائناً عاش كل لواعج الاجتماع المتخلف بمشاعره البدائية في بيئة تغصّ بالانتماء، لكنه يتحدث عن الحياد الذي يعني غياب الشعور العارم بالمسؤولية، الحياد يعني هنا فساد الضمير.
إنّني أؤكّد هنا بأنّ الحياد بهذه الشروط المثيرة للقرف، هو في حدّ ذاته معيق للمعرفة. فقلة الإحساس بالمسؤولية تجاه الأشياء، غياب التعصب للعدالة والحقيقة، افتعال الحياد الخادع الذي يسعى من خلاله أدعياء الحياد إلى تقديم أنفسهم بصورة أسطورية تؤكد على معصوميتهم ونزعتهم السوبر- بشرية لعدم التأثر كآلهة، بمعطيات التفكير وتدبير الحقيقة في العالم، كل هذا هو التفاف يجعل مرضى المنخوليا (حالة من القلق والانقباض النفسي الشديد تصيب بعض الناس في ما بين الأربعين والستين, فتوقع اليأس في نفوسهم) هم مثال متقدم للحياد العلمي.
لو توقف العلم على هذا النمط المنخولي لما قام إبداع ولا ابتكار، فالفلاسفة والعلماء المبادرون، المقتحمون، من ذوي الميول الحادة، والاختيارات الصعبة، هم من ينتج المعرفة، وليس من هم عالة على منتجات المنخرطين في مصارع الحقيقة، الذين يعتبرون الحياد هو إعادة إنتاج المعرفة بالقوالب السكولارية التي ما هي إلاّ اختبار مدرسي لمعرفة إلى أي حدّ استوعب الطالب دروسه وكيف يتم تنزيلها.
المدافعون عن الموضوعية من خلال أنماط إصدار البيانات المعرفية وإعادة تقيّؤ المعلومات من ذاكرة التلقّي السكولاري، هم مصيبة المعرفة، ومن مصلحتهم التشبث بفكرة الحياد لأنّ لا ضمير ولا إحساس لهم، فيجعلون اختلالهم الإنساني امتيازاً في مسالك المعرفة.
ينطق المنتمي بحقائق كثيرة، ينقلها فاسد الضمير، فيكون منطوق الأول غير موضوعي، بينما يكون منطوق الثاني موضوعياً، والمعيار المفسر لهذه المفارقة هو: أنّ الأول متفاعل مع معطيات عصره وآنيته والثاني متصلّب، منخولي غير مكترث بالمحيط، لكنه قناص يدبر الحقائق وفق مصالحه الخاصة. ترى هل يكفي التلويح بالموضوعية في المزاد غير العلني للحقيقة؟
أحاط بمفهوم الموضوعية الكثير من الالتباس، وهي أصلاً قضية أخلاقية تتعلق منذ القدم ولدى التيارات العدلية في التاريخ بما فيه تاريخنا، بالعرف الأخلاقي في تدبير الحقيقة. إن العدالة المعرفية غير مبحوثة، وليس مفكّر فيها، حيث إنّ الابستيمولوجيا غير كافية، فهي مكملة، وتشبه فقط القسم التقني الخاص بمكافحة الجريمة، فمجرمو المعرفة كُثر، ولا زال هناك خصاص في فقه جنائي خاص بأخلاقيات المعرفة خارج هذا التداول الملتبسة لمفاهيم لم تعد تقدم ولا تؤخر في مجال إنتاج المعرفة وتدبيرها.
تحول مفهوم الموضوعية إلى أداة قمعية، تحول دون نطق المتكلم، نوع من الكبح اللاّتواصلي، وشكل من الإدانة المسبقة، وخداع حجاجي من الدرجة السُّفلى، بل إلى نوع من التشويش. الكائن المعرفي هو إنسان، وهو إنسان في محيط، وإذا كان ولا بدّ من التلويح بالموضوعية، فلا بدّ من الاحتكار إلى معايير متعالية. أي لا بدّ من تخصيص حقل للدراسات الأنثروبو-علمية، تعنى بدراسة العلماء في محيطهم وكيف يتم التأثر بالمحيط في إنتاج المعرفة. الأنثربو- علمية ستصدمنا لا محالة، ذلك حين تجعلنا نكتشف أن أغلب ما أنتجته البشرية من العلوم والمعارف، هي مدينة فيه للمبادرة غير الحيادية، أي لنقل إنّ الموقف اللاّموضوعي -حسب المعايير التبسيطية للموضوعية في المتداول اليوم- هو عنصر أساسي في الابتكار، وبأنّ البشرية مدينة للانتماءات، وللعصبيات، وللفوضويات، في التحول المعرفي. المحايدون، المتكلسون، المنخوليون، الجليديون، البكماوات، هم عالة على ما ينتجه الثوريون، والفوضويون، والمنتمون، واللاّحياديون.
لعله من المفارقة الحديث عن الأنسنة والموضوعية في آن، ونكتشف مفارقة هذا الاستعمال المغرض حينما تهتز فرائص أصحاب المصالح الشخصية التي تعتبر اليوم معيارا للموضوعية حين تصبح منزهة عن المصالح الجماعية، ذلك لأنّ اهتزاز أولئك أمام فعل إنساني، أو انقباض حيال حالات اللاّحياد ، هو شكل من الانتهاك للأنسنة. كيف نستطيع الانخراط في حوار بين الحضارات والثقافات إن كنا سنحمل نعش الحياد الزائف، ونضع فوق رأس العالم سيف ديموقليس، حيث تصبح الموضوعية في التصريف الطفالي لأدعياء العلم هو أن ترى ما أرى. يستعمل نشطاء السكولارية المعرفية مفهوم الموضوعية الزائف أكثر مما يستعمله العلماء في مختبراتهم، مع أنّ حقل الدراسات الاجتماعية شديد الارتباط بحقائق اللاّحياد، مثل العلوم السياسية وتاريخ الأفكار وسائر العلوم الإنسانية. باتت “الموضوعية” كتلويحة لازمة للنصب والاحتيال.
ليس هنا المقام الكافي للحديث عن بؤس مقولة الموضوعية في العلم، وكيف أنّ التجارب الشخصية والميول اللاّحيادية هي التي كانت وراء العديد من اقتحام النماذج المعرفية المهيمنة لصالح آفاق متجددة. فالعلم يشترط على أصحابه المتعارف من المعايير والمناهج التي تختبر في سياقها وإطارها بعيداً عن الخيال الذي تقدحه المواقف المسبقة، والتي تؤكد أنّ الإكثار من التلويج بالموضوعية كجُنّة تترس بها ذوات مهتزة، يرعبها الفعل الإنساني في التنوع والاختلاف، كل هذا يؤكد على مفارقة الموضوعية نفسها، لأنّ هذا الإحساس يعزز حقيقة أنه في الواقع لا يوجد حياد، بل هناك فقط اصطفافات معلنة وأخرى غير معلنة. وتبقى الاصطفافات المعلنة مهمة حتى من منظور ماكس ويبر، لأنها واضحة وتساعد على المراقبة الابستيمولوجيا، بينما الاصطفاف غير المعلن، فضلاً عن أنه اصطفاف انتهازي يدور حول المصالح الشخصية، هو تشويش على المعرفة ومصدر كل مغالطاتها.
ويصبح الحديث عن الحياد والموضوعية في المجال العربي نكتة أخرى تكشف عن كبرى المغالطات في حقل غير مشبع بالإبداع، ولا زال حقله الدلالي يزحف في مسار مُعوق ومراقب معرفياً. يصبح الحياد، فضلاً عن أنّه خداع لا أخلاقي في مجال العلم، غباء بالغ حين يتحول إلى خطاب رسمي للجماعة التي تعكس أزمة أنطولوجية قبل أن تعكس أزمة إبستيمولوجية، أي الفشل التاريخي والتربوي في الخروج من نموذج السكولارية إلى نموذج الثورة المعرفية. يشبه البحث الموضوعي المزعوم وصلة غنائية للأطفال: ألف.ألف..باء..باء.ثاء جيم حاء خاء..
ماذا يعني أن تكون الموضوعية هي هذا التهجي السكولاري؟ هذا يعني أن ديكارت وسبينوزا وكانط وهيغل ونيتشه الخ، ليسوا موضوعيين، ولم يتقنوا سولفيج الموضوعية الزائف. فلو طبقنا عليهم معايير الموضوعية كما في متداول مجاهيل عصرنا وبيئتنا المتهالكة، لاعتبروا منتهكين للموضوعية. إنّ هذا الإسفاف مضرّ بتطور المعرفة، وهو آفة مكّنت لجعل حقل العلم والمعرفة حقلا غير ممتنع عن الطفيليات الملوّثة والمهددة للمعرفة بالشلل النصفي أو الكامل. يحصل هذا في كل مجال يحتضن أفعال الإنسان الفكرية والعلمية، النظرية والعملية. تبدأ عملية تحرير المعرفة من ضرورة الحرب على هذا الخداع الأيديولوجي الذي تحمله عبارة الموضوعية، والتي يختفي خلفها الكسل والأحاسيس المغرضة والمآربة الشخصية والبلادات المستفحلة. فمعايير العلم كفيلة بتحرير العلم مما يرين عليه من آثار الجهل، ولا يمكن تقييد الموقف العلمي بمفاهيم ليست مقنعة علميا. فالموضوعية نفسها ليست مفهوماً علمياً نهائياً. إنها رطانة لا تجدها إلا على أفواه من لا زالوا في المدارك الملتبسة لملحمة الإنتاج المعرفي الكبرى.
التشبث بالحياد الخادع نابع من سوء نية، وعدم امتلاك الشجاعة الكافية للإعلان عن الميول السابقة لمهام العلم أو تلك التي تكتسب في سيرورة البحث، إنه بتعبير آخر ضرب من المكتسبات المعرفية الممنوعة والمهربة التي يخفيها المختبؤون خلف الموضوعية، حيث كل ملوح بالموضوعية يعيش على إيقاع خلفية تاريخية مثقلة مع أشكال من الميول اللاّموضوعية. إنه بتعبير آخر يعكس مشكلة تاريخ شخصي مع الموضوعية.
أعلن من هنا أنّ الموضوعية هي آخر المفاهيم المزيفة التي لازالت تحيط بتقاليدنا ومعجمنا، وآخر المفاهيم الغبية المخترقة للمعرفة قصد التشويش ومحاربة الثورات المعرفية الكبرى. إن كان ولا بدّ من الحديث عن الموضوعية، فهو الإطاحة بهذا الاستعمال المغرض للموضوعية نفسها. ولتحير العلم والمبادرة والشجاعة من هذا التشويش البليد، لا بدّ من مساءلة فرسان الموضوعية الورقيين: من أين لك هذا؟ من تكون؟ من أين تشربت؟ اكشف عن انتماءاتك وشبكة مصالحك وجغرافيتك الخفية؟
كاتب من المغرب