«الكونترباص» بين باسم الجابر وباتريك زوسكيند
برغم غرابة الفكرة نوعاً ما، إلا أن الأمسية الموسيقية التي حضرتها في قاعة الدراما بدار أوبرا دمشق، لعازف «الكونترباص» باسم الجابر، أعادتني إلى «المونودراما» الشهيرة التي كتبها باتريك زوسكيند بعنوان «كونترباص»، ويُصوِّر فيها صاحب «العطر» مونولوجات غاية في الألق بين العازف وآلته، مازجاً بين تاريخها الذي يعود إلى منتصف القرن الثامن عشر، مع التاريخ الشخصي لعازفها، ومجاوراً بين مكانته الإنسانية، والموقع الذي تحتله «الكونترباص» ضمن جوقة الآلات الأخرى، فما شهدته في الحفلة التي عنونت بـ«كونترباص باسم» كانت أشبه بمرافعة جمالية لما يمكن أن تحققه هذه الآلة، وحيدةً أو برفقة غيرها، ولما تمتلكه من خصوصية وفرادة، سواءً في نمط صوتها الجهير، أو في أساليب العزف عليها بواسطة القوس «أركو»، أو النقر بالأصابع «بزيكاتو» أو باستخدام الريشة، إذ سعى الجابر في أمسيته إلى إزاحة «الكونترباص» من الصفوف الخلفية للفرق السيمفونية، ووضعها في المقدمة، وإزالة الغموض الذي يلفُّها، والجهل بإمكاناتها، فمنذ المقطوعة الأولى «بارِم بيس» لمؤلفها الفرنسي «رينو غارسيا فونز» بدأ تَجَلٍّ جديد لما تكتنزه هذه الآلة الضخمة من حيوية، سواءً في مونولوجاتها، أم في حوارها مع كل من بيانو «طارق سكيكر» وفلوت «طارق حاتم» وأكورديون «وسام الشاعر» وإيقاعات كل من «ميشيل خياط» و«عمران أبو يحيى»، لينتقل «الجابر» بعدها إلى «وجهة نظر ثانية» بتوقيع «ناريك عبجيان»، مُحيلاً العزف إلى ما يشبه إثبات وجود، وخلق فسحة «للكونترباص» ليقول قوله، عبر التناوب بينه وبين الآلات المرافقة، فمرة ينتقل إلى المقدمة مع خلفية متواترة من البيانو، وأخرى يندغم مع صوت الفلوت، وثالثة ينجدل مع نغمات الأكورديون، وفي رابعة يفرض سطوته ورتمه على بقية الآلات بنقرات وضربات قوس احتجاجية، ليعود الانسجام بين الجميع في وحدة لحنية.
المقطوعة الثالثة كانت أغنية «يما مويل الهوى» من التراث الفلسطيني بمرافقة صوت «بتول نبيعة» المخملي، بحيث تواشجت نغمات «الكونترباص» ونشيجه، مع رخامة حنجرة المغنية الشابة، في ثنائية تستقي بهاءها من نسغ واحد، مع تفريدات في الغناء، وتمهيدات من «باسم»، جاءت أشبه بمغازلة بين عمق صوت «نبيعة» وطبقات القرار التي تصدر عن آلة «الكمان الأجهر» كما يطلق عليها البعض، الأمر ذاته تحقق في أغنية «ميلي ما مال الهوى» من التراث السوري، مع تكريس لشجن الآلة وبلاغتها في تصوير مشاعر اللحن.
توسيع دائرة الضوء على مكامن جمال «الكونترباص» ، استمرت من خلال مقطوعة «كونترباص شرقي» تأليف «رينو غارسيا فونز»، وفيها برزت القدرة على التطريب، عبر مداورة أرباع النغمة، بتصعيد درامي لحني لافت، يُكرِّر لازمة موسيقية بضرب القوس مع الأوتار، ومنها ينتقل إلى سحبات قوس آسرة، بحيث تشعر معها أن «الجابر» لا يعزف بقدر ما ينسج اللحن على آلته، التي يُطوِّعها لخدمة مشاعره، كما فعل في مقدِّمة لحن «أنت عمري» لمبدعه محمد عبد الوهاب، إذ حوَّل «الكونترباص» إلى «عود كبير»، بعدما تخلى عن القوس، مستبدلاً إياه بريشةٍ أدّى من خلالها تقسيمات على مقام «الكرد»، تستغرب معها هذا الامتلاك المُذْهِل لمكنونات هذه الآلة العملاقة بأوتارها الغليظة، والقدرة على استنطاقها إبداعياً وجمالياً، فلا تبقى هي ذاتها التي نراها في آخر صفوف الفرق الأوركسترالية والسيمفونية، بل تصبح أقرب إلى المزاج العام للمستمعين، ومحببة أكثر إلى أسماعهم، فكيف إن كان اللحن من تأليف «باسم» نفسه، هنا تُصبح كل علامة بمثابة نأمة، وكل حركة قوس كأنها شهقة، وكل نقرة وتر أقرب إلى ضربة قلب، إذ اندغمت في مقطوعة «بادية» الرؤية الموسيقية مع تأصيل مكانة «الكونترباص» في جوقة الآلات المرافقة، بتوزيع مفعم بالحيوية، وجماليات الحوار، وانسجام الأصوات، وذلك تحقق أيضاً من خلال مقطوعة «موزاييك» والتي أعادنا فيها «الجابر» إلى مونودراما موسيقية غير تقليدية على الإطلاق، كسرت الأنماط الجاهزة للحديث عن «الكونترباص» والتعريف بها، وكشفت النقاب عن جماليات لافتة، ملغيةً الكثير من الأفكار المسبقة عن ثقل تلك الآلة على القلب، وصوتها غير المحبب، وإمكانات عازفيها البسيطة، فما فعله «باسم» أنه أعاد البسمة لوجه «الكونترباص» ، بعدما أنقذه من غرقه السابق في التجاهل والإنكار، وأعاده إلى جنة الآلات المحببة.