كان متوقعاً إذاً فوز الرئيس الأسد بالأغلبية المطلقة.. هذا التّوقع يبدو مستفزّاً لخصومه، حتى أنهم غير قادرين على تحمّل نتيجة الانتخابات، ومسبقاً لديهم تفسير ثابت: إنّها انتخابات غير طبيعية، لكن توقّعنا كان مبنياً على حدس ما هو أبعد من التقدير السياسي، فالأسد كان قائد ملحمة كبرى، لا يحتاج إلى صناديق الاقتراع لكي تعرّف مكانته في وجدان الشعب السوري، لأن الشعب كان يعرفه في يوميات العدوان بخلاف الأغراب الذين اجتهدوا حدّ المرض لرسم صورة نمطية عن سورية التي في خاطر الإخوان.
إنّ الانتخابات تكون طبيعية في سورية بالنسبة لخصوم الأسد، حينما فقط تجري برضى “ناتو” وأردوغان وحتى الرجعية التي لم تشهد صناديق الاقتراع ولم يسمع مثل ديمقراطيتها في البلاد.
لا أحد من خصوم سورية في بيداء عربية فاقدة للرشد يقف على أرضية تسمح له بأن يعطي دروساً لسورية في الديمقراطية.. لا أريد أن أطلق العنان لسيناريو قياس سورية على أي دولة عربية خلال عشرية العدوان، لنفترض أن سورية غير سورية والأسد غير الأسد، ففي أوّل طلقة سيختفي الزعيم في حفرة أو يطلب اللجوء في اليوم الثاني أو يقول -كما فعل زين العابدين بن علي- فهمتكم، في اليوم الثالث ينفرط عقد الدولة والجيش والشعب لتنطلق حرب أهلية بين أفراس النّهر.
كل هذا لم يقع، فما أضعف الاستبداد حين تحط أقدام الغازي في البلاد، هناك وجب التحليل والمقارنة، لكن سورية لم ترضخ، والرئيس ربط مصيره بمصير شعب ووطن، وظلّ صامداً في عرينه.
المشكلة هي أنّ خصوم سورية لم يستندوا إلى رؤية سياسية ولا مقاربة إستراتيجية، ولا وعي تاريخي. كانوا ينتظرون أن يأتوا إلى سورية على دبّابة عثمانية أو أمريكية أو صهيونية، وهو الحلم الذي أخفوه تحت كل الأقنعة والشعارات المزيفة.
تزامن الانتصار السوري عند فوز الرئيس الأسد مع انتصار المقاومة في فلسطين، وكانت الفصائل الفلسطينية المقاومة قد زارت الأسد في سياق يحمل دلالة الربط بين الانتصارين.
لقد سعى خصوم سورية لإبعاد سورية من معادلة النصر، والحقيقة أن سورية طيلة عشر سنوات كانت في حرب مع الاحتلال الصهيوني الذي خرق الأجواء وتآمر وقصف وتدخّل كما تلقّى ضربات موجعة ورشقات بالصواريخ، لكن العمى كان ضارباً في الإقليم.
انتصار الأسد يعني انتصار سورية وفلسطين وخيار المقاومة، وقد تزامن ذلك مع حراك دبلوماسي بدأ ينطلق في اتجاه عودة العلاقات مع دمشق، وسيكون فوز الأسد اليوم بمثابة بداية مرحلة جديدة تحصد فيها سورية محصول عشر سنوات من الصمود والانتصار.
قلنا مراراً إنّ فوز الأسد بالأغلبية الساحقة هو لا ينتمي للتصويت الانتخابوي الاستكشافي ولا للتصويت العقابي، بل هو تحصيل حاصل بديهي، لذا فدلالاته أبعد، لأنّها ترتبط بالسياق التاريخي أكثر من صندوق مصنوع من ألواح ودسر. وبعد أن تحدثنا مراراً عما يعنيه هذا الفوز بعلوم الظاهر، فسنزيد خصوم الأسد علماً بما يعنيه هذا الفوز في علم أسرار الحرف إن كنتم للنيميرولوجيا تعبرون:
فاز الأسد بنسبة 95,1 في المئة من الأصوات، في عرس انتخابي موسوم بالمشاركة المكثفة خارجاً وداخلاً.. وهذا الرقم هو في النهاية يساوي 6، أي ما يقابل حرف الواو، وهو يساوي أقوى نقطة في الإنسان (Hippocampus)، نقطة الإجهاد في الدماغ.
اعتبر (Thomas Browne) في القرن السابع عشر الميلادي رقم 6 يتواجد في سائر الكائنات. وقد تبين أن الستة ومشتقاتها يقوم عليها نظام الحياة: كدقات القلب 60 دقة في الدقيقة الواحدة، تقسيم الساعة إلى 60 دقيقة، وجود ستة أنظمة في الإنسان عصبية وهضمية ودموية وهرمونية وإخراجية وتنفسية، بالإضافة إلى حقائق أخرى (الحقائق الرقمية المذكورة منقولة).
خُلقت السماوات والأرض في ستة أيام حسب ما ورد في الكتاب، وتكرر ذلك سبع مرات (في سورة الأعراف، ويونس، وهود، والفرقان، وق، والسجدة، والحديد)، والسبعة هنا في لغة العرب تفيد الكثرة، إمعاناً في تأكيد أهمية الستة في أسرار الحروف، والتي حسب النظام الفيثاغوري تصلح معبراً لتحليل حقيقة الشخص والحدث.
إذاً، هي نسبة تحيلنا إلى الستة في علم الحرف، مركز الإجهاد (امون)، وعدد الأيام التي استغرقها بناء النظام الكوني، وكذلك هي سورية بعد عشرية الخراب: عشرة ضرب ستة = 60، من مشتقات الستة، إنّه عدد ولادة الكون من العدم، وخروج سورية من رماد الحرب، من أتون عُشرية الخراب الملوّن، ومن المغالطة والعدمية.
إذاً هو فوز يشهد عليه هذا الحرف الكوني بأسراره التي تتجاوز حسابات برهان الغليونية، وكل حسابات تدخل في المزاد العلني لبيع الوهم.. بشار من خلال أول حرف يعني الوضوح والصدق في الوعد والموعد.
يأتي فوز الأسد لينهي عهد العدمية السياسية، للأساطير المستنبتة في فصل ربيع كاذب، عهد كالدّساسة في مروية البخاري: لا يعرف هل هي مقبلة أم مدبرة؟ بلا هوية أو ملامح، ولكنها تدلّ على الدّجال، كومة من شعارات متدفقة في شلال متسيّب، ومعاني شاردة كرصاصة طائشة. إنّه أيضاً انتصار للمفاهيم وعودتها إلى نظامها اللغوي ومواضعاتها الحقيقية ومعجمها الإيتيمولوجي.. هو فوز للمعنى والحقيقة والتّاريخ.
لقد ساهم في فوز الأسد في الانتخابات خصومه أيضاً، لأنهم كانوا أغبياء حدّ بؤساء جان فالجان، بقدر ما عضّوا أناملهم من غيظ انتصاراته، بقدر ما ازداد الأسد شعبية، وبقدر ما حاربوه، منحوه فرصة للصمود والتعبير عن معدن البطولة والقيادة، بقدر ما كانت كراهيتهم أسطورية، أصبح صموده أسطورياً. وهكذا في معادلة تكامل الحقيقة مع نقيضها في دياليكتيك كمال المعنى واستقامته.
إنّ عشرية العدوان هي بهذا المعنى ساهمت في كمال معنى سورية التي ما كان ليعرف سرّ جلالها الخفي، لولا تفوقها أمام من أراد أن يمتحن حقيقتها، ألم يقرؤوا حروف مجدها عند سعيد عقل وصُداحيات فيروز؟ هاكموها:
قرأتُ مجدَكِ في قلبي و في الكُتُـبِ.. شَـآمُ، ما المجدُ؟ أنتِ المجدُ لم يَغِبِ
إذا على بَـرَدَى حَـوْرٌ تأهَّل بي.. أحسسْتُ أعلامَكِ اختالتْ على الشّهُبِ
خلَّـتْ على قِمَمِ التّارِيـخِ طابَعَـها.. وعلّمَـتْ أنّـهُ بالفتْـكَـةِ العَجَـبِ
وإنما الشعـرُ شرطُ الفتكةِ ارتُجلَت.. على العُـلا وتَمَلَّـتْ رِفعَـةَ القِبَبِ
هذي لها النصرُ لا أبهى، فلا هُزمت.. وإن تهَـدّدها دَهـرٌ مـنَ النُـوَبِ
والانتصارُ لعَـالي الـرّأسِ مُنْحَتِمٌ.. حُلواً كما المَوتُ،جئتَ المَوتَ لم تَهَبِ
شآمُ أرضَ الشّهاماتِ التي اصْطَبَغَتْ.. بِعَـنْدَمِيٍّ تَمَتْـهُ الشّـمْسُ مُنسَـكِبِ
ذكّرتكِ الخمسَ والعشـرينَ ثورتها.. ذاكَ النفيرُ إلى الدّنيا أنِ اضْطَـرِبي
فُكِّي الحديدَ يواعِـدْكِ الأُلى جَبَهـوا.. لدولةِ السّـيفِ سَـيفاً في القِتالِ رَبِي
وخلَّفُـوا قَاسـيوناً للأنـامِ غَـداً.. طُوراً كَسِـيناءَ ذاتِ اللّـوحِ والغلَبِ
شآمُ.. لفظُ الشـآمِ اهتَـزَّ في خَلَدي.. كما اهتزازُ غصونِ الأرزِ في الهدُبِ
أنزلتُ حُبَّـكِ في آهِـي فشــدَّدَها.. طَرِبْتُ آهاً، فكُنتِ المجدَ في طَـرَبِي
كاتب من المغرب