لقد تناهى إلى مسامعي خبر تراجع الفيلسوف النقدي الألماني يورغن هابرماس عن قبول جائزة الشيخ زايد، بعد قبوله كشخصية العام الثقافية، كما أوردت دير شبيغل، وهي بتعبير العروي الذي سبق ونال هذه الجائزة، بأنها الأهم والأغلى في العالم، وهي كذلك، لأنّ قيمتها تبلغ حوالي ربع مليون يورو.
وقد اجتهد كثيرون لتبرير تراجع آخر فلاسفة مدرسة فرانكفورت بعد هوركيمر وأودورنو وماركوز وإيريك فروم، عن قبوله للجائزة، بينما هو رجل فلسفة الفعل التواصلي بامتياز، وكان واضحا أنّ الأمر كما صرح هو نفسه بأن ذلك يخالف مبادئه.
يبقى من الضروري تأكيد أنّ جوائز من هذا القبيل يصعب رفضها لا من حيث صيتها الرمزي ولا قيمتها النقدية، ومن هنا أهمية موقف هبرماس. وقد يكون من المناسب تأكيد أنّ وجود جوائز من ذلك القبيل، هي في نظري قضية طبيعية، لأنّ الدول لها تقليد في وضع سياسات تخص حقولاً شتى بما فيها قطاع الثقافة. لكن قيمة الحدث تكمن في تأويله، فماذا يمكن أن نفهم من هذا الرفض؟
يتساءل الرأي العام عن تلك المبادئ التي تجعل فيلسوف التواصل يرفض جائزة ذات صيت إقليمي وعالمي؟ ويبدو أنّ الأمر له دلالات متعددة، سنوجزها في عشر دروس، اعتبرناها بمثابة وصايا، يعكسها موقف هابرماس الأخير:
الدرس الأوّل:
بالفعل، إن كنا نعتبر الفلسفة في خطر، فهذا مجاز لا ينبغي فهمه فهماً تبسيطياً لا يرقى حتى إلى الاستعارات التي بها نحيا بتعبير جورج لاكون ومارك جونسون، ذلك، لأنّ لكل جيل فلاسفة ينقذونه من الخطر.
الدرس الأوّل يتعلّق بدور الفيلسوف، بوصفه استثناء في بيئة المهرولين. فالفلسفة قائمة بذاتها، لا يمكنها أن تصبح شاهد زور في عالم لا زالت الفلسفة تشكل فيه أملاً. إنّ الفلسفة هي أداة تساهم في توفير إمكانيات متقدمة على مستوى إنتاج المفاهيم لمساعدة الفكر. وهذا يعني أنّ هبرماس ناضل من أجل سمعة التفكير الحرّ.
الدّرس الثاني:
لقد كان هبرماس من أشهر قادة مدرسة فرانكفورت، حيث تجاوزت شهرته نظراءه، لكنه اليوم عبّر عن وفاء كبير لمدرسة فرانكفورت النقدية الاجتماعية، وجعل ماركوز وأودورنو، وماركوز وغيرهم، يرقدون بسلام، لأنّهم لطالما ناضلوا من أجل عقلانية متجددة، ومن أجل إنسان حرّ، إنّه درس النّزاهة. إنّ أنصاف المثقفين لطالما يعيرون السياسيين بغياب النزاهة، ولكن لا يتحدثون عن المثقف غير النزيه، أي ذلك الذي لا يقدّر حرمة التفكير والمعنى.
الدّرس الثالث:
لو أنّ هبرماس قبل بتلك الجائزة لكان أمراً عادياً في زمن تراجع الضمير، وهشاشة المعنى، وانتهازية النخب، ولكنه فضّل أن يكون مفكّراً متضامناً مع الحرية، منزّهاً الفكر من كل ما من شأنه أن يجعله في وضعية حرجة. إن هابرماس بهذا المعنى، أكد أنّ تكريم فيلسوف لا يمكن أن يأتي من بيئة غير فلسفية. فالجائزة هي بتعبير آخر علامة تعكس رضا المانح ورضا الممنوح، وهذا الرضا المتبادل لا يمكن أن يكون مجتزأ، كما أنّه تراضي له آثار وتبعات واستحقاقات.
الدرس الرابع:
أكد هبرماس من خلال هذا الموقف على أنّ الفلسفة هي في قلب العملية التضامنية مع القيم العقلانية والتحررية، وبأنّ افتعال الحياد الفلسفي باسم الموضوعية، كما بات تقليداً مزيفاً لدى قطاع واسع من الفلاسفة- الزوفرية (philosophes ouvriers) بالتعبير النيتشي، هو مغالطة.
الدرس الخامس:
وضع هابرماس مثقفين كثيرين، بمن فيهم أنصافهم، في حرج كبير، أي حينما أكد أنّ البيئة التي تؤطر هذا الاعتراف، لا تسمح بأن يكسب فكر الأنسنة والتحرر والعقلانية والفعل التواصلي معنى ومصداقية.
الدرس السادس:
إنّ حجة السلطة بمعناها الدولي حاضرة هنا في مواجهة حجة السلطة بمعناها الإقليمي. لا أحد من الكامبارس وذيول المراكز الثُّقافية المستثمرة في شراء الذمم الفكرية، يملك مواجهة هبرماس الذي لا يعتبر فيلسوفا يونفرساليا فحسب، بل هو فيلسوف ألمانيا الجديدة أيضاً.
الدرس السابع:
أضاف هبرماس تفسيراً إضافياً إلى مفهوم الفعل التواصلي، وكيف وجب أن تتطور العقلانية ليس في متون الكتب والخطاب، بل عبر مسالك النقاش والفضاء العمومي، إنّه، وهو المراهن على العقلانية التواصلية، يؤكد أن التواصل ليس فردياً، بل جماعياً، وبأنّه قاصد، يهدف استنبات عقلانية إجماعية عبر النّقاش الحرّ. فكيف يمكن الحديث عن عقلانية تنتجها عملية اختراق العقلانية بالرّيع والاستبداد.
الدرس الثامن:
الحالة المزيفة للتنوير في العالم العربي وفي بؤر رجعية كثيرة، لا يمكنها أن تحقق الاختراق نفسه في البنيات المعرفية الصلبة، حيث يوجد حراس مدرسة فرانكفورت، فالتنوير في هذه المدرسة خضع إلى تحليل وتفكيك وتجاوزية.
الدرس التاسع:
ناهضت فرانكفورت فكر الانسداد والتمركز الغربي والعقلانية الصلبة، لصالح إمكانيات مفتوحة وتواصلية. ومع هابرماس، بات معيار العقلانية الحقيقية هو النّقاش، والنقاش هو الحرية.
الدرس العاشر:
يؤمن هابرماس بالمصلحة، ولكنها مصلحة جماعية، ويصار إليها بالنّقاش. ليست مصلحة انتهازية، ولا وصولية، ولا مصلحة فردية على حساب مصلحة جماعية. لقد أنهى هابرماس زمن الهرولة والزج بالفلسفة في مهرجان حصاد الجوائز من دون شروط تأخذ بعين الاعتبار قيمة التفكير الحرّ والأنسنة التواصلية اللاّوصولية واللاّانتهازية.
عشر وصايا مستلهمة من موقف هابرماس، الشاهد على انزلاق الإقليم في احتواء الفلسفة في سياقات مفارقة. إنّ الحداثة الصلبة للعروي مثلاً بتاريخانيتها الكلّيانية ليست حجّة على التأويل الفرنكفورتي- نسبة للمدرسة- فهابرماس لا يساوم في العقلانية برسم التواصلية، لكن المثقف العربي رغم صلابته الظاهرية هو هشّ، وقابل أن يتجاوز كل اعتبارات الخطاب ليقدم شهادة زور على عقلانية ليست كالعقلانيات، وكلمات ليست كالكلمات. إن كان هناك قيمة لهذه الرفضوية الهبرماسية، فهي أنها كشفت عن موت الأيديولوجيا العربية المعاصرة، وزيف نقّادها الأوائل.
لقد رأينا كيف هرول إلى تلك الجوائز رجلان من قلب الأيديولوجيا العربية المعاصرة: رجل الحداثة الصّلبة، ورجل ما بعد الحداثة الرخوة، كلاهما التقيا في مفرق الاستجازة، ولكن ثمة ممثل لما سميه بالبين-حداثة: هبرماس، كان أكثر استقامة في الدفاع عن الفكر المسؤول والحرّ.
وللتذكير، فإنّ مجلة دير شبيغل قد انتقدت قبول هبرماس بالجائزة، وذلك لأنها رأت في ذلك تلميعاً للسياسات، ولكن سرعان ما تراجع هبرماس واعتذر، فعادت دير شبيغل للإشادة بموقفه، وهو بذلك يؤكد بالعمل قبل القول، بأنه يؤمن فعلاً بالفضاء العمومي، فلقد راسل المجلة نفسها مصححاً قراره، مشيراً إلى أنه لم يكن قد قدّر جيداً حيثيات تلك العلاقة بالقول: “لم أقدّر بطريقة كافية العلاقة الوثيقة بين المؤسسة التي تمنح الجائزة والنظام السياسي القائم هناك”. كما صرح قائلاً: “عادة، عندما تصطدم العقلانية بالقوة تفوز القوة (السلطة). ولكن على المدى البعيد أنا أؤمن بالقوة التنويرية للكلمة النقدية، إذا ظهرت فقط في المجال السياسي العام، وكتبي التي ترجمت إلى اللغة العربية تكفي”.
وبهذا حسب تعبير ديتمار محرر دير شبيغل: “بتصحيح نفسه، يظل الفيلسوف مخلصًا للتنوير التواصلي وأهم قيمه”.
لقد خلق هبرماس الحدث مع أنّ “فورين بوليسي” (Foreign Policy) الأميركية، تساءلت من قبل: لماذا اختفى هابرماس؟”. لنذكر أنّ هذا الموقف الثوري التنويري جرى في زمن الجائحة التي تعصف بالصّحة العالمية، ما يعني أنّ هبرماس ساهم في تسعينياته في صناعة الأمل.
كاتب من المغرب