معرض «بدء» لعمار حسن.. سيرورة المادة والصورة
تُطالعك في لوحات معرض «بدء» للفنان عمار حسن فلسفة «أرسطو» الميتافيزيقية، ففي كل من الأعمال التي قاربت الثمانين لوحة، محاولة لشرح العالَمْ من خلال ثنائية «الهيولى» و«الصورة» اللتين لا تنفصلان، وسبر ما يُشبه الانفجار الكوني للطبيعة، وتجسيد ما يوازيه من انفجار لوني، يجمع ما بين الضياء والانطفاء، بين الخفة والثقل، والواقع والخيال، ضمن توليفات جمالية تستشف ذاكرة الفنان البدئية عن موجودات الطبيعة، من صخور وأشجار ومياه أزلية ونورٍ موحٍ, ما نراه في اشتغالات «حسن» ليس تصويراً بالمعنى الضيق للكلمة، وإنما انبعاث للشكل، وتلمُّس نشوئه وارتقائه من كونه مُجرَّد «مادة» إلى «صورة»، إذ ثمة مسيرة في اللوحة تتمخض من فهم فلسفي خاص، يهندس مكوِّناتها، ويوضب محتوياتها، إلى جانب عناية رهيفة بالتقنية، وسيالة لونية خاصة، تفضي إلى اتحاد بين كيمياء الشكل وفيزيائه، وكأن التفكير بالعمل التشكيلي هنا ذو صبغة فريدة، فهو لا ينطلق من الواقع، وإنما من كيفية تكوينه، وانصهاره في ذهن «حسن»، وهذا ما يُعطي انطباعاً ذاتياً لدى كل متلقٍ، بحيث يتمادى في تأويلاته لما يراه، فلا النهر نهر، ولا الجرف جرف، ولا الصخرة مجرد صخرة، ثمة ما يسكن كل تلك الأشياء، وهو ما يعطي كل لوحة غناها، وصوابية تكويناتها، سواء في الخلفيات المجردة، أو في تسخير الاندغامات اللونية لتحقيق انبهار بصري عالي المستوى، أو في العناية بالتفاصيل سواء في اللوحات الصغيرة أو الكبيرة.
الجميل أيضاً في معرض «بدء» أن «الهيولى» المعروفة في فلسفة أرسطو بأنها تُعوق العالم وتؤخره، كانت في اللوحات مُحفِّزاً لنشوء «الصورة»، فالمادة الناجمة عن تصورات «حسن» للطبيعة الأم، استطاعت التنحي عن مقاومتها لارتقاء الصورة، ما جعلنا أمام ما يُمكن تسميته فَلْتَات الطبيعة وغرائبها، كالصخرة زهرية اللون، والنبتة البرية الزرقاء، والشجرة الأشبه بالشُّعَب المرجانية بألوانها القزحية، والسفوح الأقرب إلى الماغما البركانية، والسمكة الحمراء التي لفظها الشَّلّال، والوديان الصفراء، والذي يميز كل ذلك زاوية النَّظر، ففي بعض الأحيان تشعر أنك تتمعنها من فوق هاوية، وفي أخرى من تحت الماء، وثالثة في قلب جرد صخري فسيح، أي إنك تعيش في اللوحة، وكأنك أحد مكوناتها الأثيرة، فتندغم في مشروعها، وتصبح رائياً ومرئياً لها في الوقت ذاته.
وبالانتقال إلى تمثل آخر لفلسفة أرسطو من خلال أعمال المعرض، يمكن الحديث عن فكرته في أن «سُكنى البيت سبقت في الذهن بناء البيت، لكن في الخارج تم بناء البيت أولاً ثم السكنى فيه»، وبالمثل صنع الفنان حسن، إذ إن تفكيره باللوحة سبق صياغتها وحُسْن سَبْكها، كيف لا وهو كناقد تشكيلي له قدرته على تلمُّس مكامن الجمال والقبح في أعمال من يكتب عنهم من التشكيليين. من هنا جاءت اشتغالاته في معرضه الأول ضمن صالة عشتار، نتيجة بحث طويل في الشكل والتقنية، حتى امتلك تقنيته الخاصة، وحقَّقَ فرادته في كيفية التعاطي مع موضوع الطبيعة، بحيث يمكن القول إنه تبصَّر في عمله قبل أن يُعمِل فرشاته وألوانه على سطح اللوحة البيضاء، ساعياً قدر الإمكان للوصول إلى تمام الصورة من مادتها الخام، والتنويع في صيرورتها بمعناه الفلسفي والتشكيلي في آن، ولذلك جاءت حتى تجريداته مُفعمة بالمعنى، والمدى في لوحاته فسيحاً جداً، وكما اشتغل على الآفاق فإنه وضع عدسته الميكروسكوبية على بعض التفاصيل صانعاً منها توءمةً مع مثيلاتها ذات العدسة الواسعة، وكأنه في كل لوحات معرضه يُكرِّر مقولة « في البدء كانت المادة ثم أصبحت صورة للعالم كله».