مغالطة الخلط بين الحكم والانفعال

شيء ما يلازم الإحساس الأوّل بوجودي، إنّه الآخر. من هنا تنشأ علاقة تفرض على الوجود الانسحاب، وهو ما يسميه مارتن هيدغر (فيلسوف ألماني) بنسيان الوجود. ذلك لأنّ الماهية ستحتل المكانة، وهي البديل الذي يتوارى من خلفه الوجود.

بقدر الميل إلى أصالة الوجود نعيد اكتشاف حضوره، ويقلّ الهمّ الآخري باعتبار أنّه هنا أكثر تضليلاً في استيعاب هذا الحضور.

تنشأ من هذا الانقلاب قضية الخطأ، ذلك لأنّ الذهن والواقع يفرضان علاقة المطابقة، بينما الخيال غير معنيّ بهذا التصنيف، ومن هنا اعتُبر معصوماً كما ذهب ابن عربي. معصوم بخلاف العقل الذي في نظر القوم هو معني بمجال المطابقة الماهوية، بخلاف الخيال، حيث لا يوجد فيه ما يُعتبر مخالفاً، هذا إذا أدركنا أن الخيال هو واقع قائم بذاته. لن نخطئ إن كنا لا نصل فكرنا بأشياء خارجية، وكذلك لن نخطئ إن كنا وحدنا غير معنيين بهذه العلاقة التي هي مصدر الخطأ. الإنسان خطّاء لأنّه موصول بالآخر، كائن علائقي، واع ومكلّف أيضاً بوعي الآخرية.

اهتدى ديكارت كما في التّأمّلات إلى التمييز بين الأحكام والانفعالات، حيث جعل الخطأ مقتصراً على الأحكام دون الانفعالات، هذه الأخيرة، ليست مجالا للخطأ. نحن نخطئ لأنّ بعضاً من أفكارنا قد لا تطابق صورتها الواقع.

لنقل بتعبير آخر، إن موضوع الخطأ يتجه نحو الأحكام التصديقية، أمّا التّصوّر فهو واقع قائم بذاته.

من خلال هذه المقدمة أريد أن أتناول واحدة من المغالطات التي تحضر في الحجاج اليومي، ولكنها غير مصنفة في معجم المغالطات المتداولة والمرصودة في منطق الحجاج. ومظهر هذه المغالطة كالتالي:

يبدأ المُحاجج النقاش بقوة المنطق الصلب، مستعملاً آليات البرهان في مقام الأحكام التصديقية، لكنه يترك حبلاً سرّياً مع الانفعالات، فما إن يشعر بضعف الحجة في المحور الأول حتى يقفز إلى المحور الثاني الانفعالي.

ولقد وفرت المغالطة المذكورة عدداً من المفاهيم الزائفة والعناوين الأجنبية عن منطق الحكم، مثل: هذا رأي، أنا أختلف معك في الرأي، عليك أن تتقبل الرأي الآخر..

ومثل هذه المغالطة تستنزف الخطاب الإعلامي تحت ضغط التحكم بالمضمون والوسائل وغياب الزمن الموضوعي للتعبير. ولا يوجد تمييز بين الأحكام والانفعالات في هذا المجال ما يعني أنّ المطلوب اليوم من الخطاب الإعلامي هو سلب ملكة التمييز من المتلقّي، واحتكارها من صانع الخطّ التحريري العام.

تُستعمل معاني محور الانفعالات في قمع معاني محور الأحكام، في عملية باتت فيها الثورة التواصلية المغشوشة معنية بالوسائل أكثر من المضمون. الثورة التواصلية اليوم تعاني من حالة انسداد، لأنّ المحتوى لم يعد محكوماً بمفاهيم محور الأحكام التصديقية المنطقية، بل بات محكوماً بالأحاسيس الانفعالية غير المعنية بالتصويب والتخطيء.

ليس بمقدور الإنسان اليوم أن يواصل طريق المعرفة إلى النهاية، فحالة المعرفة وما يسمى النقاش العمومي المفتوح، هو كذلك مفتوح على كل صور التضليل وسحر الصورة، ولكنه عاجز عن إعادة تشكيل المضمون خارج لعبة إضلال الصورة وكذلك مغالطة الخلط بين الحكم والانفعال.

في العلم الحضوري وحده –وهو ليس حالة عامّة النّاس– تندرك الواسطة بين العالم والمعلوم، بين الذات والموضوع، وهو ما يجتمع فيه الحكم بالانفعال. لكن هذا قد يثير إشكالاً فلسفياً من نوع آخر، إشكال لم تخض فيه الفلسفة بما فيها الحكمة المتعالية، وإن كان في إطار مفاهيمها قد ندرك الكثير من أبعاد هذا الإشكال، وأعني به سؤال الخطأ في العلم الحضوري: هل ممكن أم لا.. وما مقدار القطع الذي به يكون الحكم في العلم الحضوري معصوماً عن الخطأ؟ هذا إن نحن باشرنا قضية أخرى: هل الحضوري مساوق للكشف؟ فإن اعتبرناه كذلك، حصل إشكال آخر.. يحدث هذا في منعطف التناقض بين علميين حضوريين أو كشفيين بالمعنى العرفاني للعبارة، مما لا مخرج منه إلاّ بأمرين:

– إمّا اعتبارها حقائق انفعالية لا يجري عليها –كالخيال– حكم الصواب والخطأ.

– وإمّا اعتبارها ضرباً من الجهل المركّب.

وإذاً، في الحالة الثانية، ما قيمة الكشف؟

يبدأ النقاش في عموم الحجاجات، في سياق الإلزام وفي إطار الأحكام، لينتهي إلى توصيف انفعالي غير قابل للتصريف المنطقي. هناك انقذاف حرّ في عملية الحجاج غير موصولة بميثاق، تجعل المتحاجّين يملكان صكّ الدخول وصكّ الخروج، كما يملكان التحرك خارج الرّقابة الصارمة لمجلس رقابة أو تحكيم. ففي مجال الحجاج كاللعب لا بدّ من قواعد اللّعب، وحكم يُذكّر ويُتابع تنفيذ تلك القواعد.

ما يجري في مجال المعرفة لا يوجد في أي شكل من أشكال اللّعب، وهو ما يجعلنا نعتبر أنّ السجال المُغالط ليس من جنس اللّعب، بل قد يكون ضرباً من العبث، حيث في العبث لا نأبه لا بالغاية من قيام السجال ولا بشروط قيامه على ما هو مقرّر في أصول الحجاج قديماً وحديثاً، كما لا يشبه سائر المحاكمات، حيث يكون المحاجج طرفاً وقاضياً في الوقت نفسه استناداً إلى المغالطة لا إلى قواعد التفكير العامة، وحين نقول عامة، وجب اختبار المفاهيم قبل الأحكام نفسها.

كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار