العلم في ذروة الاحتكار الإمبريالي
هل تاريخ العلم يشبه تاريخ السياسة؟.. أجد نفسي في حيرة، فالوتيرة التي قطعها العلم تختلف من حقبة إلى أخرى.
للعلم سياساته.. هو مثل السياسة خاضع لمنطق قياسي يستمد سلطته من القوّة، أي ديكتاتورية المقاولة العلمية.. تاريخ العلم هو تاريخ انقلابات مَدينة للفوضوية أكثر مما هي مدينة للباراديم.
لنقارن بين ما حدث في تجارب الأمم السياسية وما حدث في تجاربها العلمية.. لا شكّ أنّ مثبّطات العلم كثيرة، بعضها له صلة بتاريخ الذّهنيات وشروطها الاجتماعية، بعضها له صلة بوضعية التقنية، بعضها يعود إلى جملة النماذج التي استبدت بالعقل البشري حيال حقائق الطبيعة والكون.
غير أنّنا -لاسيما في المراحل التي شهدت فيها الوتيرة العلمية تطوراً ملحوظاً- كان هناك أيضاً تحوّل في السياسات وفلسفتها، وكان للسياسة دور في العلوم والاكتشافات الجغرافية بقدر ما كان للسياسة ولا زال دور في قمع العلم وتأخّره.
في مجال الطّب، لا زلنا مدينين لنماذج محدّدة، ساهمت في إعاقة التطور نتيجة سياسات، لها علاقة بالمقاولة أيضاً. فلمّا بات البحث العلمي مرتهناً للمقاولة ولدفتر تحمّلات يحدّدها المانحون، كنّا أمام تدابير لتنظيم مخرجات المقاولة العلمية، يكون فيها الرّبح والتسويق والاحتكار هو من يحدد متى يُطلق سراح العلم أم لا، ولنا في صناعة وسوق الدواء المثال الأكبر على ذلك.
حين يُطلق سراح البحث العلمي، فذلك هو الميقات الحقيقي لما يُعتبر انتهاء فعالية باراديم، ليُفتح المجال لبديل جديد، يقتضي، ومن دون حاجة لأي عنف آنارشي، أن يترك المكان لغيره. وقد تتذرع المقاولة بالكثير من الذرائع السياسية والأخلاقية، وأحياناً يتمّ استنزاف التفكير في مدى مشروعية البحث العلمي حول قضية ما، وربما وجدوا مافيا علمية، دورها هو التشويش وتقديم سرديات علمية لإخافة الرأي العام.
أشكّ في أنّ مشكلة التطور العلمي مرتهنة اليوم للتقنية فحسب، بقدر ما أعتبر أنّ المشكلة تتعلّق بالسياسات؛ هذه الأخيرة هي التي تفسّر اختلاف وتائر التطور العلمي، وتفسر حروب التجسس العلمي، وأيضاً أشكال المنع والعقوبات التي تلاحق أي محاولة للابتكار والتصنيع خارج التوافقات والأجندات؛ كما أنّ المغالطات السياسية تلعب دوراً كبيراً في كبح جماع التطور العلمي.
تربّعت السياسة على كرسي النماذج، وهي تدرك أنّ منافسة عالمية في حقل العلم من شأنها أن تغيّر التوزيع الإمبراطوري للتقدم العلمي، فباتت السياسة تلعب دوراً كبيراً في منع التطور الكبير للعلوم ليستجيب لوتائر أبطأ وُمتَحكّم فيها عبر النموذج المتسلّط، والذي يخضع بدوره لأجندة الاحتكار العالمي للمنتوج العلمي ونماذجه.
إنّ محاولة فكّ الارتباط بالنموذج باتت اليوم شكلاً من أشكال التهديد الجيوستراتيجي، وهي تعتبر بالنسبة للقوى العظمى نوعاً من التهديد للأمن القومي. وستجد أن الابتكار متى حصل خارج نطاق هذه الأجندات السياسية، لن يحظى بالاحتفاء الذي نجده عند ابتكار أي منتوج في الدول العظمى؛ تلعب السياسة الإعلامية دور التجاهل وأحياناً التشكيك.
وفي زمن كورونا لاحظنا دور السياسات في إعاقة الابتكار في مجال اللقاح، وكثيرة هي المحاولات التي لم تُنصَف ولم تجد لها في الميديا الدولية أي اهتمام مع أن الأمر يتعلّق بإنقاذ الحياة البشرية. وسنجدنا أمام خطاب يستند إلى ما يعرف بمغالطة «ذنب بالتداعي» وهو رفض كل ما يصدر عن جهة نكرهها، ولقد بلغت حدة هذه المغالطة أن نرفض الابتكار العلمي حين يأتي من جهة تتمتع بالسيادة ولا تقع في موقع النفوذ.
وفي جائحة كورونا وقفنا على أمثال من هذه المغالطة في الخطاب الإعلامي بالإضافة إلى أساليب التجاهل، وهي مغالطة لا تخالف العلم والمصلحة العامة بل تتحوّل إلى معضلة أخلاقية تجعل العلم هو نفسه مُرتهناً لسطوة السياسة.
اليوم تهيمن قوى الاحتكار على البحث العلمي، بل هناك جدل ونقاش قائم في بلدان أوربية وغيرها حول تمكين الأكاديميين من بلوغ المقالات العلمية التي يتم احتكارها لكي لا تكون في متناول الباحثين. وأما فيما يتعلق بالعالم الثالث، فيمكن القول بأنه يخضع لشروط مجحفة في مجال تبادل الخبرات والمعلومات.
لقد ظهرت ابتكارات عديدة للقاح ضد فيروس كورونا من دول تقع خارج النفوذ الغربي مثل الصين وروسيا وإيران، وكانت الصين نفسها قد تعرّضت لخطاب يقضي بتجاهل لقاحها، لولا أنّها قاومت محاولات التجاهل والتشويه، ولأنها استطاعت منذ سنوات أن تتقدم على طريق القوة الناعمة وكسب ثقة الرأي العام العالمي بما فيه الغربي حول تقدمها العلمي.
كذلك روسيا التي أنتجت لقاحاً تمّ تجاهله -وكذلك ثلاثة أنواع من اللقاح أنتجها العلماء في إيران- لم تجد احتفاء دولياً مع أنّ قضية اللقاح لها علاقة بالصحة العالمية. وفضلاً عن أننا أمام مغالطة ذنب بالتّداعي إلاّ أننا أيضاً نواجه تداعيات مستوى آخر من الحرب هي الأعمق والأبعد، تتعلق بحروب القوة الناعمة القائمة على قوة النموذج، والتي تتجلى في حجم ووتيرة وجودة الابتكار، أي معنى للابتكار في عالم تحكمه سياسات الاحتكار؟
من خلال أمثال عديدة، نستطيع القول إنّ العلم اليوم في حالة ارتهان، لنتحدث عن العلم الأسير في شروط مجحفة ورهينة لتعاقدات سياسية، إنّه يرسف بسلاسله خلف القضبان؛ فالإمبريالية لم تستغل العلم إلاّ عبر الاحتكار، لكي لا يكون العلم في خدمة الإنسان.
كاتب من المغرب