دون كيخوت.. هل انتهى عصر الفرسان؟

لم تخل مغامرات الرجل الحديث هي الأخرى من مظاهر الفروسية.. الاكتشافات الجغرافية.. الإبحار في أعالي المياه.. والسير في أقاصي الأرض.. الحروب الحديثة.. الثورات الكبرى.

تتولّى البورجوازية حركة لتقويض قيم الفروسية وتخنيث المجتمع وإخصاء كل حركة اجتماعية تهدد مصالحها.. تختبئ وراء شيطان التقنية لتجعل الحرب نفسها صناعة مخنّثة.

أبدع ميغيل دي ثرفانتس سردية كلاسيكية ساخرة تعبر عن هذا التحول التراجيدي في القيم والأحاسيس، وذلك في رائعته «دون كيخوت» في بدايات القرن السابع عشر.. فكرة الفرسان والمشاعر المفعمة بقيم العدل والحسم، على ظهر جواد ضامر وسيف قديم وإرادة منتفخة بالخيال، غامر دون كيخوت إلى أقصى ما يسعى إليه فارس نبيل، حتى إنه حارب طواحين الهواء كما لو أنها أجنحة شياطين.

في نهاية المطاف يستفيق من جنونه ليكفر بالفروسية لاعناً تلك المشاعر، بعد أن أقعده المرض لمدة سبعة أيام متتالية؛ عاد دون كيخوت إلى اسمه الحقيقي ألونسو كيخانو.. لقد انتهى ساخراً من نفسه.

كنت أرى أنّ حنا مينة أنقذ الموقف قليلاً في رائعته «نهاية رجل شجاع».. رسم مساراً تراجيدياً لهذه النهاية بدل وضعها في قالب قدر ساخر، الرواية التي أبكتني كما تبكيني كل رواية ترسم نهاية مأساوية للأبطال.. ومسبقاً لا أستطيع متابعة أي إنتاج درامي أو عمل فني أو أدبي يكون قدر الفرسان فيه مأساويّاً.

لقد كنت في هذا شأن الرميض، أحد بقايا الفرسان الناذرين في ذي قار… ابن العشيرة المتمرد أيام الانتداب البريطاني.. قناص ماهر.. حارب بمفرده وأطاح بجنود كثيرين.. له أشعار في الحماسة بالزجل المحلّي.

كان الرميض يرفض المشي مطأطئاً رأسه، لأنه يعتبر ذلك خلافاً لقيم الفرسان.

كنت أتابع الحكاية، بينما في الحقيقة أرى في الرميض ملامح جدّي، البطل الذي أحرق الكثير من المحاصيل الزراعية للمستوطنين إبّان الحماية، مقاوم أطاح بالكثير من جلاوزة الاستعمار، كنت أراه وقد أقعدته الكسور والرضوض القديمة، رأيته يوماً يبكي لأنه لم يعد قادراً على إقراء الضيف بيده، كنت أرى تلك التراجيديا وهو يقول بيقين الفرسان: أريد أن أرحل، خذني إليك يا ربّ، ماذا سأفعل الآن هنا، هذا زمان سيئ؛ فرسان قضوا في صمت، رحلوا وتطاول الأوغاد، لم يتحدث عن المقاومة باكياً بل ضاحكاً، يعتبر ذلك قدراً، لقد دوّخوا قوات الاحتلال بأساليب مبتكرة وبسيطة، لم أعرف كيف انتهى الرميض، لكنني رأيت كيف انتهى جدّي في تلك الأيام، وهو ينتظر أن يغادر، لأنّ الحياة في إحساس الفرسان تصبح جحيماً حين يُقعدهم المرض، وهو لم يمرض بشيء سوى الرضوض والكسور المزمنة التي ورثها من عصر الشقاوة ومنها مقاومة الاحتلال. مات شامخاً وقد اتخذت عليه في قلبي وعقلي مسجداً. مات وماتت معه قصص وحكايات، قوم قاموا بالفطرة ضد الاحتلال ولم يدخلوا موسوعة غينيس.. تاريخ لم يكتب.

رواية دون كيخوت مفعمة بالمعاني والمفارقات لن يفهمها إلا صاحب إحساس حقيقي بالفروسية. الفروسية والجنون أمران متداخلان، ليس فارساً من لا يجن عندما يشتد الخطب، الفرسان يفقدون عند التحدي كل إحساس بالمسافات والحافات، كالوعل يناطح الخصم على حافة الجبل، بل تتغير أحوالهم فإذا هم ليسوا هم.. نتساءل عن البركان الساكن في أعماقهم، عن أي حيوان كاسر يسكن طباعهم، وكم يبدو حينئذ العالم صغيراً في نظرهم، كم هو رمادي، كل شيء يغدو سهلاً، يجب أن نبكي على تراجيديا الفرسان حين يترجّلون أو يقعدهم المرض أو تدور الأيام ويطغى عليهم جُبناء النّوع.

السخرية هنا كناية عن عصر ينتهي به الرّفه بالمعنى الخلدوني إلى تراخي القيم، لكن يظل هناك بقايا فرسان في ضحى الحضارات يقاومون الضحالة.

للفروسية أكثر من بُعد وهي تتكيف مع سائر العصور وتقاوم، هي ليست خياراً لا عقلانياً بل هي ضرورة عقلانية يستنجد فيها العقل بعقل آخر.. وبالجنون لاستعادة المعنى والقيم الكبرى التي يقوّضها رفه الحضارات في زمن الانحطاط.

الفارس الحقيقي لا يسخر من نفسه، بل يموت شامخاً محافظاً على قوته الغضبية، هناك تراجيديا الفرسان، يقضي فيها الجسد ويعيش الرمز، لا غنى عن الفروسية في قيام وبقاء القيم.

اختار دون كيخوت -قبل بدء المغامرة- حبيبته وغيّر اسمها؛ كان يحتاج أن يُهدي انتصاراته إليها، لم يعد للفارس بعد نهايته التراجيدية من يهديه انتصاراته، ولو كان ولا بدّ أن أسْتدْرك على رائعته، لرسمتُ لها مساراً آخر أو مسارات أخرى، وخذ مثالاً:

لم يعد لدون كيخوت حبيبة يهديها انتصاراته أو يتقاسم معها احتراق أحاسيسه الأخيرة، حبيبته هي الأخرى ماتت؛ سيدرك دون كيخوت تلك الحقيقة التي أعادته لغابر الزمن.. يا دهر أف لك من خليل.. ماتت إثر مرض عضال، كان دون كيخوت قد دفن الماضي، لكنّ خبر موت الحبيبة هزّ ذاكرته، تساءل: ما قيمة هذا الوفاء، لقد غادر قبل أن يراها.. فقط يراها.. بكى كثيراً .. يا للمصيبة.. دموع الفرسان ثقيلة.. مؤلمة.. بكاء جادّ وبريء تماماً كالأطفال.. شعر الفارس باليتم.. يخشى أن يتذكّر لكي لا تهجم عليه تلك الصّور.. قضى واقفاً.. يشعر بالخيانة وخيبات الأمل.. لازال ينتظر أي مسار ستتخذه نهايته.. هو اليوم في مرحلة انتقالية بين خيال ثيرفانتس وخيال حنا مينة.. بين نهاية ساخرة وأخرى تراجيدية.. من يا ترى يدرك حقيقة الفرسان.. مشاعرهم.. رؤيتهم لعالم يتسلّط عليه الأوغاد ويهيمن عليه الضعف العقلي وهذا الاسترخاء القيمي الذي لا تستنهضه القوة الغضبية.. يقضي الدون كيخوت، والرجل الشجاع، والساموراي، والرميض، وجدّي صاحب الخنجر، كأنه انحدر من أساطير اليمن.. ويقضي أبطال كُثر فرسانا شاهدين على كل العصور.. شامخين.. ومع ذلك أسعى أن أرسم لدون كيخوت نهاية مرحة.. نهاية تشبه آخر قطرة من زمن ماطر.. آخر بيت في قصيدة مقفّاة.. آخر ابتسامة تروي حكاية انتصار الملكوت.. في البحث عن النهايات الجميلة في الأزمنة الضّائعة.

كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار