بديع منير صنيج :
تختلط الأمور في مسرحية «روبيرتو زوكو» لمؤلفها الفرنسي «برنارد ماري كولتيس»، والتي قدمها طلاب قسم التقنيات المسرحية حيدر الحامض، عبد الرحمن سمسمية، محمد الزعبي كمشروع تخرج الفصل الأول على خشبة المسرح الدائري بإشراف أدهم سفر، فالواقع موارب، وطبيعة الشخصيات مخاتلة، والأحداث غير منطقية، ما جعل التحدي الأكبر للطلاب هو في التعاطي مع هذا النص ما بعد الحداثوي، ببطله الذي تحوَّل إلى أسطورة رغم جرائمه الكثيرة، وبالحوارات المُكثَّفة التي تكاد تكون هي البطل الثاني في المسرحية، إلى جانب عدم منطقية تعاطف الشخصيات الثانية مع «زوكو» رغم كونه قاتلاً متسلسلاً، وفوق ذلك الأمكنة والأزمنة المتراكبة فوق بعضها، إلى الحد الذي تصبح فيه المدينة محصورة ضمن دائرة صغيرة وكأنها سجن، والعلاقات الاجتماعية القائمة فيها تنحو إلى غرائبية كبيرة، ما يجعل تنميطها عصياً جداً، ولاسيما مع البطل المتناسل من «أوديب» بشكل من الأشكال، بعدما قتل أباه وأمه، واستمر بجرائمه من دون مُبرِّر سوى الخراب الداخلي، الناجم بصورة أو أخرى عن خراب المجتمع الذي يعيش فيه، رغم مستواه الثقافي العالي، إذ إنه طالب لسانيات في جامعة «السوربون».
هذه التراجيديا المعاصرة التي صاغ مناخاتها طلاب التخرج من بعض لوحات مسرحية «كولتيس» التي كتبها قبل وفاته بقليل، وضعت جمهور المسرح الدائري في مواجهة مباشرة مع الأحداث، ابتداءً من حالة خوف باعة البسطات، مروراً بعنف اغتصاب الفتاة القاصر من قبل «زوكو»، مروراً بالعلاقة مع الرجل العجوز في قاعة انتظار “الميترو”، وليس انتهاءً بقتل ابن المرأة أمام عينيها بدم بارد، والمجون واللهو في الخمارة التي تُعيدنا إلى الحلقة الأولى بعدما تعرفت إليه الفتاة التي اغتصبها بدايةً ثم تحولت إلى فتاة هوى، وتالياً إلقاء القبض عليه وإيداعه السجن مرة أخرى، وهروبه المتكرر منه… كأن الرهان في تلك المواجهة، هو في إشراك الجمهور بالحكم على أفعال المدينة المعاصرة وسكانها، ومحاولة تلمُّس أسباب العنف الكامن فيها، وما هي الدوافع التي جعلت من ذاك العُصابي أسطورة حيّة تستعصي على اللجم، ولاسيما في ظل تَشهيهِ الجسدي العارم، وتشوُّشه الذهني، وأوهامه المديدة، وردّات فعله القاسية، وغير ذلك.
كل تلك الأمور نجح الطلاب في إنشاء فضاءاتها السينوغرافية بعناية، ابتداءً من عمق الخشبة الكتيم مع بعض النوافذ، إلى قطع الديكور البسيطة المناسبة لكل مشهد، سواء ضمن الحديقة حيث الكرسي ونفاضة السجائر والشجرة شبه العارية، أو في قاعة انتظار “الميترو” بساعاته المتدلية من السقف، أو في الملهى الليلي بطاولته وأجوائه الحمراء، أو في مكتب التحقيق بطاولته الوحيدة وإضاءته العلوية،… ليبقى السجن هو المكان الغامض الوحيد الذي لا نراه على الخشبة إلا في المشهد النهائي حيث تتحول قضبانه إلى حزم ضوئية تدور حول الشخصيات جميعها، لتعزز من رمزية المدينة/ السجن، التي تأسر ساكنيها بقوانينها المحكمة، وتجعلهم هائمين من غير هدى في تلمُّس ملامحهم الشخصية، وهروبهم المستمر من جور المَدَنِيّة الحداثوية، حيث يتحول القاتل المتسلسل إلى نجم محبوب، وحتى شبقيته تصبح مرغوبة من المُعنَّفين بها، بما فيهم الأم التي قتل ابنها أمامها، وكأن الإرادة التي يمتلكها «زوكو» هي وحدها القادرة على تحويل معالم المجتمع وفق هواه، طالما أنه لا ينظر إلى أفعاله إلا كرد فعل على خذلاناته الاجتماعية المتكررة، لتصبح لغته، وهو طالب اللسانيات، هي المسبب لأفعاله بطريقة ما، والمونولوجات المطولة ضمن العمل، والبعيدة عن لغة الحياة اليومية، ما هي إلا تغريب من نوع خاص، فرض على الطلاب أن يكثفوا من المعنى في كل شيء، فجاءت الإضاءة خافتة لكنها موحية، ومناسبة لكل مشهد، والموسيقا مدروسة بعناية (تأليف موسيقي ومؤثرات صوتية «فارس الزراد»)، بحيث لا تشوش على الكلام، وإنما تدعم المواقف الدرامية المتباينة في توهُّج أفعالها، بين النبرة القوية كالاغتصاب والقتل، وبين النبرة اللينة كالحوار مع العجوز، لذا نرى أن سيرورة العمل تراكبت كعمارة درامية متقنة زاد من ألقها أداء الممثلين (علاء زهر الدين بشخصية روبيرتو زوكو، سامر سفاف/ الأخ، غيث الأدهمي/السيد العجوز، غفران هواري/ السيدة، علي سلمان/ المفتش، رياض نحاس/الرجل) والأداء الحركي الذي صممه «نور علوم» لكل من (مارييلا خوام/ الأخت الصغرى، ولجين مللاك/الأخت الكبرى)، لدرجة جعلت من الحاضرين لمشروع تخرج طلاب قسم التقنيات المسرحية، شهود عيان على خراب المدينة المعاصرة، وعلى القصاص الجسدي والنفسي الواقع على ساكنيها من قبل مُجرم تحوَّل إلى أسطورة، انتشلته الحبال إلى الأعلى، بينما بقينا مع بقية الشخصية حائرين وذاهلين من سطوة الأحداث، ومن الإضاءة المُبهِرة التي أغشت أبصارنا، وكأنها دعوة لإعادة استبصار ما حدث.