وداعاً أيها «الإنسان» ‏

تشرين-ادريس هاني :‏

إنّ حالة «الكدورة» التي عليها تَمَوْجُدنا، هي سبب كاف لكلّ هذا الاعورار فيما نفهم وفيما نعي من ‏شؤوننا الخاصّة والعامة، البيئة الحاضنة للجهل المُقنّع تفرض تحويل المهمّة من لذّة تلقّي الخطاب ‏إلى جعل النّص نفسه مفتاحاً للتحليل النّفسي للعُصاب، أين يلتقي النقيضان وأين يفتعلان الاشتباك ‏بمقتضى وظيفة خارمة لدياليكتيك النّزاع الحقيقي، بلى، إنّ النزاع نفسه لم يعد حقيقياً هذا الذي ‏يحدث اليوم ليس جدلاً طبيعياً، بل وظيفة تقتضي حدّاً أدنى من المُلاوغة المخلَّلة بِدُربة فائقة في ‏المغالطة، مهمّة لا تكلّف سوى موت الضمير وشيء من الوقاحة وهُزال حادّ في الوعي.‏

هناك عطب بنيوي في لعبة التّواصل، لن تخفف منها كل التقنيات المدعوّة «البرمجة العصبية ‏اللغوية»، نبتة متسلِّقة، تفترض متلقّياً مشلولاً، وهي إعادة وصل الدّماغ مع هارد ديسك خارجي، ‏هذيان الوسائط ولعبة الصورة ورهن مصير العقل والضمير للمجهول، لا يفتح الباراديغم ‏التواصلي أفقاً لجدل الأنا والآخر، وكما ذكرنا حتى وجه ليفيناس استعاد قناعه من القمامة بوساطة ‏كلب جيم كاري. ‏

لم تعد المعضلة في الغير الذي نريد أن نفرض عليه «فهمنا له» شرطاً للتواصل معه، بل هل يا ‏ترى أنجزنا مهمّة التّعرُّف على الذّات.. إنّنا في عصر الأنانية الفائقة، الذات تنطوي على نفسها، ‏وهي في حالة تنمّر مستدام تجاه المعنى والوجود، والآخر مجرد موضوع للإسقاط.. نحن في عصر ‏البرمجة الشّاملة، أدواتها تبدو ضحلة، موظفوها من سوق التّفاهة، ولكن غايتها إنتاج وضعية ‏مسخ ونسخ ورسخ وفسخ، وذاك تصنيف القدامى الذين سخرنا من أساطيرهم، وها نحن في طور ‏آخر من النسخ والمسخ المبرمج الذي يستهدف ديماغوجيا الخريطة الذهنية، ممتداً إلى الوضعية ‏البيولوجية للدماغ، بين التقمص والاستيلاب الكامل نسخاً ومسخاً، كما ذكروا:‏

والنسخ ما غُيِّرَ من صفاتِ.. والمسخ تغييرٌ أتى للذاتِ

قلتُ: لا نحتاج إلى استنساخ بيولوجي شامل، فالديماغوجيا تكفي لاستنساخ الدماغ، والباقي زوائد ‏دودية.‏

ساعدت التقنية على إيجاد حوار طرشان، تجاوزتهم الصورة، واستُلب الجميع في صبيب لا الذّات ‏فيه ظاهرة ولا الآخر فيه ظاهر، بل هو حوار ينطلق من مقدمات فاسدة ويستعمل أدوات تفكير ‏فاسدة ويهدف إلى غايات فاسدة.. هل يدرك العالم أنّه مطالب اليوم بأنّ يتكيّف مع عصر السوبر-‏مفارقة؟

تمديد زمن المغالطة، وتكثيف الخراب، هما أفضل وسيلة لإعادة تشكيل النوع، لأنّ تكرار الجريمة ‏ينتهي بفرض تصالح الذّات مع برنامج الجريمة.. إنّنا في مرحلة انتقالية تأهيلية للدماغ البشري، ‏مرحلة التحلل من كل الصور التقليدية لعصر الاستنارة نفسها، التحلل من كل التزام، هذا الانقلاب ‏الكوني الذي ترعاه امبريالية النسخ والمسخ، لا يمكن الاحتجاج عليه بلغة متجاوزة اسمها ‏الضمير والعهد الدولي للحقوق، هناك عالم يتشكّل على أنقاض الضمير الإنساني.‏

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار