منطق غير منجز في البحث عن العقل المفقود ‏

‏تشرين- ادريس هاني:

أن يكون تعريف المنطق آلة عاصمة للفكر من الخطأ، هو بمنزلة مشروع تعريف غير منجز.. ‏إنّ هذه العصمة تشترط إلماماً بسائر ضروب المغالطة، وتلك لا نهائية، لأنّ طُرق المفارقة ‏بعدد أنفاس المُغالطين.. إنّ درس المغالطة لا ينتهي، فالمنطق يسير على إثرها، كاشفاً وفاضحاً.‏

ألا ترى أن المُغالط نفسه يُشهر سلاح المنطق في وجه خصمه المنطقي بوقاحة، متهماً إياه ‏بالتناقض، وغيرها من التهم التي تمتاح أحكامها من قواعد المنطق؟.. ولا سبيل للمغالط في ‏تأكيد ذلك إلاّ بالحجاج وإطالة ما لا ينبغي إطالته وتقليص ما يحتاج إلى تفصيل، إنّ المُغالطة ‏لا تحارب المنطق بل تلتف عليه وتوظّفه في مُخاتلاتها.‏

يتّهمك المغالط مثلاً بالتناقض، لكنه لا يعبأ إن كان الأمر ها هنا يتعلّق بوحدة الموضوع أو ‏بتعدده، واختلاف الشروط، زمان الحدث ومكانه، (زيد واقف وقاعد)، لكنه واقف اليوم وقاعد ‏غداً، الخلط بين النقيض والضّد، فلا شيء في المنطق يعد ثابتاً إلاّ في إطار شروط محقّقة.. وكذا ‏في سرد النظائر وإقامة حكم واحد على الأشباه، كأنّ الشبيه شبيه من كل الجهات.‏

يحصل كل هذا في دوائر العلم، وحيث الرقابة شديدة على اللغة، فما بالك في التخاطب اليومي، ‏في هذا الصبيب المتدفق من التّقاوُل الهادر.. إنّ البيئة البشرية في عمومها تعيش حالة من ‏التّلوث المنطقي، لأنّ شرط العيش لا يتوقّف على كمال المنطق في التخاطب.‏

تجري حياة النوع على قوة الحدس والمناسبة، تأجيل التحقق إلى حين، ومن هنا تتسرب ‏جرثومة المغالطة، ولئن كانت هناك بقايا معقول به يقوم اجتماع النوع، فمرده إلى ذلك الحدس ‏الذي ما زالت المغالطة عاجزة عن اختراقه، لأنها تجهل منطقه الدّاخلي.‏

ما زال النمط التّاريخي والاجتماعي في حاجة إلى المغالطة، فالرأسمالية تحتاج إلى الإقناع، ‏إلى الاستعباد، إلى الإعلان التجاري المغالط، إقناع الأطفال والكبار بالأدوات نفسها.. لا منطق ‏في عقود الإذعان سوى منطق القوة، الرغبة في العيش بلا منطق، المغالطة هي منطق ‏الاجتماع غير المتكافئ فرصاً وطبقات، في الاجتماع غير العادل لا يعتدل الذوق ولا الاجتماع ‏ولا المنطق ولا العقل ولا الحياة.‏
إذاً ما العمل؟

إنّه الحدس الذي به نعترض على لعبة منطق غير منجز، هشّ حدّ استعمال المغالطة لقواعده، ‏الحدس الذي أشعرنا بهذه الخدعة، وهو المرجع حين انهيار هيكل المنطق، من هناك البدء، ‏يمنحنا الحدس شعوراً حادّاً بأنّ اختلالاً كونياً أصاب العقل والمعقول، استيلاب كائن في ‏إكراهات عيش لا مشترك، الأنماط والبضاعة تحدد أي عقل نريد، أي خيال نريد.. العقل لم يعد ‏حرّاً، بل مسمّى العقل الممنوح، عقل أليف، متصالح مع كائن يتطلع أن يكون دماغه تحت ‏قدمه.

سيتعايش الكائن مسمى العاقل مع نقيضه، حيث العقد الاجتماعي سمّاه عاقلاً، سيتساوى ‏الجميع في عقل ممنوح في صفقة تاريخية وليس حسّاً مشتركاً ممنوحاً من السماء كما سماه ‏ديكارت، يصبح المعقول واللاّمعقول وجهة نظر في مهرجان فتق القول، في لعبة الاختباء ‏خلف بنصر الأنسنة المزيّفة، في التّقاوُل الذي يستند إلى خفّة القول والتهرُّب الضّريبي من ‏التِّسْاؤل والتّحقق.‏

نعيش ذروة تساوي المعقول واللاّمعقول، الأطروحة ونقيضها، الفضيلة والرذيلة، تساوت ‏الأدلّة، وحين يتساوى الأمران يكون الراجح هو المسنود بلعبةٍ ما، في زمنٍ ما، في سياقٍ ما.. ‏إنّ الحدس هو آخر سلاح في تحقيق ثورة العقل مجدداً، والبحث عن العقل الضائع، أمّا ‏الاستسلام للعقل الممنوح في صفقة سوسيو-تاريخية، مهما آنست به البشرية، ومهما وجد فيه ‏قراصنة المعنى فرصة تاريخية لتحقيق رغبة الجهل المُقنَّع، فدونه خرط القتاد.‏

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار