“موسيقا الرّقَّاد” .. جرح ينزف في الذاكرة!
تشرين- حلا خيربك:
نادرة جداً الأعمال الدرامية التي تتناول الحياة في الجولان المحتل، سواء كفيلم أو سهرة تلفزيونية أو مسلسل، لا قبل الاحتلال ولا بعده..
غير أن رواية “موسيقا الرقاد” للأديب زهير جبور ابن القنيطرة وحاضر ذكرياتها، نرى فيها أهم وأفضل مادة جاهزة لتكون سيناريو يتحدث عن الجولان المحتل قبل الاحتلال.
عن المكان
المكان: على ضفتي الرَّقَّاد ، والرقاد نهر صغير في الجولان، يصخب شتاءً ويغفو صيفاً ليرقّ ويتحوّل لمستنقعات تملؤها الضفادع، والتي يغفو على موسيقا نقيقها أهل (حي النهضة) القائم على جانبي النهر.
أما الزمان: فهو ليلة إطلاق أغنية أم كلثوم “أنت عمري” ، على إذاعة “صوت العرب”.
ومن ذلك المكان والزمان يتنقل الكاتب برشاقة بين ذكريات وأحداث عديدة جرت في الفترة السابقة للاحتلال، حيث كانت الحياة طبيعية، دافئة، وتعكس النسيج الاجتماعي المتنوع في تلك المنطقة آنذاك، والذي يغلب عليه الطابع العسكري، والظروف الاقتصادية القاسية والعامة، وتكيف الناس معها: الأثاث، أسلوب المعيشة، الأفكار، القيم هناك، الأحلام. وهذا التنقل الرشيق بين الأحداث والأزمنة القريبة.. يشبه كثيراً في بنائه القطع في السيناريو التلفزيوني، ما يجعل الرواية مناسبة جداً لتحويلها إلى فيلم طويل أو سهرة تلفزيونية تتناول الجولان بسردٍ واقعي حقيقي.
عن الرقّاد والحاصباني
“كان الحاصباني من أجمل الأنهار، وهو بتضاريسه مختلف عن الرّقَّاد، فهذا لا يعرف الرّقود، ولا نقيق الضفادع، وتحيا فيه جميع الكائنات النهرية.. يتحدثون هنا عن أساطيره: السمكة ذات القرنين التي قضت على العديد من الشبان، والضبعة التي بالت على ذيلها، ورشقت ضحيتها لتضبعه ويتبعها إلى المغارة فتلتهمه بداخلها، والجنية التي تزوجت واحداً من الشباب وقيل إنها كانت جميلة، ذات مرة التقيت بزوجها حامد وحدثني عنها: “هي جميلة جداً ورقيقة وتأكل مثلنا، لكنها لا تنجب من الإنس”.. وكانت شاهدته يسبح في النهر فظهرت له وسمح لها ملك الجان من الزواج منه، كان حامداً يلتقيها ليلاً..
يقولون: إن السيد المسيح قد عبر النهر في طريقه إلى قانا، وزار الغجر.. وأيضاً “جعفر الطيار” وأقام له أهلها مقاماً تظلله الأشجار”.
عن مرح المراهقة
في تفاصيل هذه الرواية الصادقة والحساسة التي تقع في مئة صفحة تقريباً ما يجعل الدموع تنهمر عند كل قراءة، والتي لا تخلو من مرح المراهقة، حيث إن بطلها طفل مراهق يعيش يومياته في حي النهضة في الجولان.
“جلست بعض النسوة بمحاذاة جدران البيوت، يحدقن في وجوه بعضهن البعض، في انتظار عودة الآباء أو عدم عودتهم، من سيدفن من؟ الحي ميت، والميت قد مات ولم يرَ ما حصل؟ من سيودع من؟ والغصة في الحناجر.. الدموع متحجرة في العيون، – ماذا عن أبيك؟
لم يكن بإمكاني أن أرد.
أحاديثنا ليست مترابطة، وأجوبتنا بلا معنى، كلماتنا مبعثرة دون هدف، بلا وعي، فالذي حصل أكبر من حجم حياتنا وصراخنا”.
موسيقا الأنهار
تتضمن هذه الرواية يوميات من لحم ودم، أماكن وقرى وروائح وذكريات، تفرقت شخوصها ولم يعلم أحد عن ألمهم المشترك، ولا عن مشاعرهم عندما تركوا بيوتهم وسمعوا كلمة “نازحين” تتردد حولهم في دمشق، حيث تجمعوا على أرض معرض دمشق الدولي، في الوطن! وبقيت موسيقا نهر الرقّاد تصدح في ذاكرتهم، وبقيت ذكريات طفولتهم تهيم دون وجود مكان لها، فمكانها لا يعرفه غيرهم ولا يستطيعون العودة إليه.
نهر الرقاد، ونهر بانياس ونهر الحاصباني والغجر وحي النهضة أماكن موجودة حقاً ولكن لا نعرفها نحن .
” ألقيت نظرة على كامل الحي، لا صوت إنذار، لا مدفعية، لم أكترث بالطيران، ولا صوته، فهو غير قادر أن يفعل أكثر مما فعله البارحة.
دخلت بيتنا، دقات الساعة الكبيرة التي كانت تحدد دوام المدرسة هدية جدي لوالدي بمناسبة زواجه، وكان والدي يقدرها كثيراً، لم تتوقف الساعة فيما زماننا كان قد توقف، أيمكن أن يكون أبي قد أصبح من الأموات؟ لم أذق الطعام منذ يومين، كنت قد اعتدت على تدخين اللفائف، “قطرميز المكدوس” على الرف أكلتي المحببة، تناولت رغيفاً يابساً، وقفت على المصطبة، ورحت أتطلع إلى تل “أبي الندى”.
أغلقت الباب على أمل العودة القريبة بعد عدة أيام، حتى ثيابي لم أبدلها”.
“موسيقا الرقّاد” رواية يجب أن يطالعها كل سوري، ففيها ما لم تتناوله وسائل الإعلام، فيها تاريخ حي وحقيقي كتبه ابن الجولان، عاشه ولم يسمع عنه، فيها دموع يجب أن نبكيها لنكون سوريين، والرواية يمكن الحصول عليها من المكتبات، وتتوافر على غوغل قراءة وتحميلاً.