ملف «تشرين».. إعادة اكتشاف روّاد التنمية الحقيقية مهمة حكومية بامتياز.. مخرجات التعليم المهني والتقاني «قادة» المشروعات الصغيرة الاحترافيين

دمشق – بارعة جمعة:
قصورٌ في سياسات التشغيل، وعدم التنسيق بين الجهات الراعية لهم والعاملة في مجال استثمار خبراتهم، في وقتٍ لا تزال الأنظار تتجه نحو مشاريع استثمارية صغيرة ومُتناهية الصغر، من شأنها النهوض بواقع الاقتصاد المحلي، ودمج الكفاءات البشرية بواقع العمل ضمن هيكلية التشاركية والتشبيك بين روّاد أعمال عُرفوا بتخصصاتهم الأكثر طلباً في سوق العمل، الذي لا يزال يجهل مُتطلباته الأساسية لمرحلة مُستقبلية تُعنى بإعادة إعمار البلاد، ضمن أُفق العمل القائم بشكل رئيس على مهنٍ باتت الأكثر إلحاحاً في الطلب من قبل طُلاب التعليم المهني، ممن باتوا اليوم الأكثر حاجة لربطهم بمشاريع استثمارية من قبل مُموّلين، باتوا الحلقة الأكثر جدلاً في تقديم ضماناتهم للعمل.. فما هو مصير خريجي التعليم المهني وسط الحاجة الماسة لكوادر بشرية مؤهلة للميدان؟ وهل ما تقوم عليه سياسات الاستثمار الحالية تتوافق مع إمكانات واحتياجات هؤلاء الطلبة؟

طوق النجاة

ليست المرّة الأولى ولن تكون الأخيرة، فالاعتماد على مشاريع استثمارية ضمن صيغة مشاريع صغيرة ومُتناهية الصغر هو الحل الأمثل لكافة الدول التي تعرضت لأزمات وحروب، جعلت من إمكانية التّعافي لديها أمراً مُمكناً وفق رؤية الخبير الاقتصادي الدكتور مجدي الجاموس، الذي أيّد فكرة العمل بها، من مبدأ أن كل دول العالم بما فيها ألمانيا، التي تعرضت لحروب اعتمدت دعم هذه المشروعات بنسبة ٧٣٪ للنهوض من جديد، لكونها تُشكل اليوم نسبة ٣٧٪ من الناتج المحلي العالمي.

الحل الأمثل لكافة الدول التي تعرضت لأزمات وحروب .. الاعتماد على مشاريع استثمارية ضمن صيغة مشاريع صغيرة ومُتناهية الصغر

في عام ٢٠١٨ نصَّ القانون السوري على  أنّ أي مشروع يُكلف أقل من مليون ليرة، أي ما يُعادل ٣٠٠٠ دولار يُعدّ متناهي الصغر ويُعفى من الضرائب أيضاً، أما في عام ٢٠٢٣ وبغض النظر عن طبيعة القطاع سواءً كان (إنتاجياً أم زراعياً أم صناعياً)، يصل رأسماله لحوالي ٦٠ مليون ليرة سورية، وفق تأكيدات الدكتور الجاموس لـ”تشرين”، وسط ميّزات عُرفت بالديناميكية والمرونة في مواجهة الأزمات، وهو أمرٌ مهمٌ جداً برأيه للخروج من الأزمات الاقتصادية، كما أنه دعامة للاقتصاد والتنمية ككل.

تحريك الأموال

يدعم التنمية الاقتصادية ويُحقق الحد الأدنى من المعيشة للمواطن، من هنا اكتسبت هذه المشاريع أهميتها الاقتصادية، لكن ماذا عن سُبُل تمويلها؟ وطرق العمل بها؟
بغض النظر عن الأزمات لدينا حجم كبير من الأموال والسيولة بالبنوك وفق تأكيدات د. الجاموس، لذا من البدهي أن يكون لدينا اتفاقيات وتوجيهات للقطاع المالي بمنح القروض لخريجي التعليم المهني، شرط أن يكون الخريج يحمل شهادة مهنية (خريج مهني أو تقاني)، وهي بمثابة شرط أساس لاعتماد التمويل له، الذي بدوره سيُشجع المُقبلين على دراسة المهني ويعمل على زيادة تقبل الناس لهذا المجال، بدلاً من التوجه للجامعات فقط.

نواة انطلاقة المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر.. خريجو التعليم المهني روَّاد أعمال بلا عمل .. وفرص بانتظار من يلتقطها.. فهل من داعم؟

كل ذلك يتطلب توجيهاً من الحكومة والبنك المركزي للمصارف لإعطاء القروض لهؤلاء الخريجين بمعدل فائدة تشجيعي، بما يُساعد على عملية تحوُّل الليرة السورية لإنتاج محلي، وإعادة الإعمار والتنمية والتشجيع على الاستثمار، عبر تحويل السيولة الرّاكدة التي تواجه قلةً بالعرض دون إنتاج مقابل، والذي بدوره يؤثر في سعر الصرف، لسيولة مُنتجة، بما يعزز سعر الصرف وفق توصيف د.

الجاموس لواقع المصارف، التي تُعاني عجزاً في سد العجز الحاصل بالقطع الأجنبي، وهو مهم جداً في الوقت الحالي.
إعفاءات وتسهيلات
تشجيع الخريجين للعمل وبناء مشروعات خاصة وزيادة الانتاج والتصدير لا يتم من دون إعفاءات ضريبية برأي الخبير الاقتصادي د. مجدي الجاموس، مُقدماً اقتراحه بإعفاء المشاريع مُتناهية الصغر من الضرائب وتسهيل التراخيص اللازمة لها، وإبقاء الضريبة للمشاريع الصغيرة ضريبة مقطوعة، وفرض الضريبة على الدخل لما تبقى من المشاريع الأخرى، شرط أن تكون هذه المشروعات ضمن مناطق مجالس المدن وفي بعض المناطق  التشجيعية الصناعية، كالتي كانت سابقاً، ضمن مناطق مُسبقة الصُنع أو في مناطق تجارية وصناعية، وبعض الأراضي الزراعية الصالحة للاستثمار، مؤكداً بأنها أمور سهلة التطبيق ولا تحتاج سوى الدعم والتوجيه، لتحقيق القفزة بالعملية الاقتصادية.

قفزة نوعية

حالةٌ من التطوّر شهدها التعليم المهني، ظهرت تجليّاتها العام الماضي ضمن سياسة تخيير الطالب لا إجباره، الذي بدوره انعكس إقبالاً لافتاً من أغلبية المُتقدمين إليه، ممن نالوا درجات عالية في شهادة التعليم الأساسي، توصيف لواقع التعليم المهني قدمه معاون وزير التربية لشؤون التقانة الدكتور المُهندس محمود بهاء الدين بني المرجة ضمن تصريح خاص لـ”تشرين”، وضح من خلاله الجهود المبذولة في سبيل تطويره، بدءاً من زيادة التخصّصات وانتهاءً بدعم الطلبة بعد التخرج.

د. الجاموس: نمتلك الكثير من الأموال والسيولة بالبنوك التي تتطلب توجيهاً من الحكومة والبنك المركزي للمصارف لإعطاء القروض لخريجي التعليم المهني بمعدل فائدة تشجيعي

الأيادي الذهبية لا تحتاج شهادة بالأصل، لكن صقل المهارات هو من واجب وزارة التربية، من هنا انطلق الدكتور بني المرجة في حديثه عن واقع مدارس دمشق، التي شهدت إقبالاً مُنقطع النظير على اختصاص تقنيات الحاسوب بنسبة ٣٥٪ من الطلبة كان دخولهم إليه برغبة شخصية، ما اضطر التربية لتوسيع الشُعَب وزيادة عدد الطلاب من ٥٠ لـ٧٠ طالباً في الشُّعبة الواحدة، إضافة لفتح شُعَب إضافية بمدارس “دمشق” كلها، وهو إن دلَّ على شيء فهو الوعي بأن يكون للشخص مهارات بعيداً عن اختصاصي الطب والهندسة.

د. بني المرجة: الأيادي الذهبية لا تحتاج شهادة بالأصل.. لكن صقل المهارات هو من واجب وزارة التربية

بعض المهن كانت تُدرج في نهاية التصنيف، فيما الإقبال عليها اليوم كان واضحاً مثل: (النسيج، وسباكة المعادن، والنجارة)، وبناءً على  سبر السوق ومتطلباته، يؤكد الدكتور بني المرجة وجود حاجة وطلب لمُتخصصين بنُظم الطاقة الشمسية، حيث تم افتتاح (٦) مهن منها بعدة محافظات، لديها حاجة كبيرة من هذه الطاقة، ليغدو التخصص الجديد باسم (التقانات المُتجددة)، وهو قيد التجهيز بأحدث المخابر على مستوى العالم، وبالتالي سيُمارس الطالب تركيب نُظم الطاقة الشمسية عملياً وليس نظرياً فقط.

تدريبات عملية

عبر مخابر روبوتية، بدأت مدارس التعليم المهني تدريباتٍ خاصة كانت حكراً على مدارس المتميزين والمتفوقين، بالتالي أصبح للطلبة فرصة للتدريب على مهارات (الروبوتيك) سيتم التوسع به أكثر، تطورٌ ملحوظ تحدث عنه معاون وزير التربية لشؤون التقانة شمل تقنيات التحكم بنظم (الأردوينو) ونُظم تحكم مفتوحة المصدر، تُعطي للطالب إمكانات برمجة واسعة مفتوحة الآفاق وتنمي قدراته بالتعامل مع التقانات الحديثة عالية المستوى، سينعكس على مستواهم النفسي والدراسي، يُضاف لذلك حوارات مفتوحة مع الطلبة، تُظهر المتميزين منهم لمُحاولة استثمار طاقاتهم و توجيهها للمكان الصحيح، فاليوم الجميع بعيد عن مفهوم الوظيفة ويلجأ للمهن، وهو واقع يجب التعامل معه برأيه.

د. الجاموس: تحويل السيولة الراكدة التي تواجه قلةً بالعرض من دون إنتاج لسيولة مُنتجة والذي بدوره يؤثر في سعر الصرف.. وبالتالي سد العجز الحاصل بالقطع الأجنبي

نُحاول التوسع بصيانة التجهيزات الطبية ونعمل على التوسع في اختصاص (التكييف والتبريد)، بينما نواجه مشكلة في (الغزل والنسيج) لقلة الكوادر المؤهلة ووصول مُعظمها للتقاعد، صعوباتٌ كثيرة ذكرها الدكتور بني المرجة، استدعت إغلاق بعض الصفوف، فيما تبدو بعض المهن مثل (سكب المعادن) مُهددة بالاختفاء، بالمُقابل تم افتتاح اختصاص (الصناعات الجلدية) – الأحذية – العام الماضي، وصناعة المفروشات بالتعاون مع شركة رائدة مع القطاع الخاص، إضافة لمحاولات جديدة لفتح مهنة صناعة الألبسة والمُعدّات الطبية، كاشفاً في الوقت ذاته عن وجود خط إنتاج لمعمل كمامات طبيّة، ومحاولات أخرى للتوسع ودمج الشُعَب، بطريقة التخصص المزدوج بدل التخصص الكامل، مثل الدمج بين التجهيزات الطبية والميكاترونيكس، والحواسيب والكهرباء، والاهتمام أكثر بتقنيات اللحام (الأرغون، الكهربائي، التيك، والميغ، والأكسستيلين)، التي وفق توصيف بني المرجة تتطور بسرعة كما أنها مطروقة حالياً، والتركيز على الصناعات الغذائية، مع إمكانية افتتاح اختصاص لها (شيف شرقي غربي) والألبان والأجبان.

د. بني المرجة: الإقبال هذا العام كان واضحاً على مهن تُدرج عادةً بآخر التصنيف

منح الرُخص

لا يكفي امتلاك المال لأخذ الرُخصة، سياسةٌ تأتي ضمن حفظ حقوق الحرفي من الضياع من قبل صاحب المال بل وجعله شريكاً (نداً للند) وجعله مُضارباً أيضاً وليس أجيراً، أكدها معاون وزير التربية لشؤون التقانة محمود بهاء الدين بني المرجة في حديثه مع “تشرين”، بعد مُطالبات عديدة وبعدة مناسبات واجتماعات مع وزارة الإدارة المحلية، بمنح الرخص للمهن حصراً، بما يُطور رغبة الناس بالعمل، فالكثير يرغب بالعمل، ويمتلك الخبرة

والثقافة والشهادة العلمية بما يجعل منتجاته نخب أول، بعيداً عن التوارث للمهنة أو التناقل الشفهي من الأسواق الذي لا يخلو من الأخطاء برأيه.

د. بني المرجة: لجأنا لتوسيع مروحة الاختصاصات باتجاه (الطاقات المتجددة ) و(الروبوتيك) وتقنيات التحكم بنظم (الأردوينو)  وصيانة التجهيزات الطبية

إلّا أنه وبالرغم من هذه الكفاءات والقدرات التي تؤهل صاحبها للعمل، لا تزال فكرة التشبيك والعمل ضمن مبدأ التمويل بالبنوك تؤرق هاجس المهني، ليبرز نوع من التعليم هو (المزدوج)، قدمه د. بني المرجة كأحد المنافذ التي يتم من خلالها التشبيك مع شركة رائدة (صناعية أو تجارية) تتعهد مدرسة تقنية أو حرفة معينة، ضمن مبدأ التشاركية بين القطاع العام والخاص لتمويل المشروع ومستلزمات التدريب والخبرات، قد يتدخل بالمنهاج بوصفه شريكاً، من خلال وجود مندوب عنه من غرفة الصناعة، يُضاف لذلك إقامة دورات تدريبية سواء لأساتذة المصانع الرائدة والشركات المتميزة أو عبر استضافة خبراء منهم لتدريب الطلبة  ضمن دورات من نمط المعسكرات الإنتاجية، ومن ثم انتقاء الطالب المُميز، الذي ساهموا بتنميته وتدريبه للتعاون معه، وهو أسهل بالنسبة لهم.

د. بني المرجة: لا يكفي امتلاك المال لأخذ الرخصة.. سياسةٌ تأتي ضمن حفظ حقوق الحرفي من الضياع وجعله شريكاً (نداً للند) ومُضارباً أيضاً ليس أجيراً

كل ذلك لا يُلغي وجود اتفاقيات عدّة لتبادل الخبرات والتعاون مع غُرف الصناعة والتجارة بكل محافظة، تم تجديد آخرها منذ فترة قريبة بين وزير التربية وغرف الصناعة والتجارة بحلب وحماة، وفق تأكيدات بني المرجة، عدا عن اتفاقيات تعاون وعمل مع الدول الصديقة والداعمة مثل (باكستان) التي تتضمن حوالي (٥٠٠) منحة لتبادل مدربين، تشمل كل المصاريف للماجستير والدكتوراه، إضافة للتنسيق مع الجانب الروسي، الأكثر تطوراً لجهة التعليم المهني، حيث إن ما يم تدريسه من مهن لديهم يصل قرابة ٢٧٠٠ مهنة مقابل ٢٥ مهنة لدينا فقط.

ضمانات أكثر

لن تكون إعادة إعمار بلا  تعليم مهني، حقيقةٌ لا يمكن لأحد أن يُنكرها، كما لا يُمكن تجاهلها كما أنها تحتاج جُرأةً أكبر من قبل المصارف الخاصة برأي مُعاون وزير التربية لشؤون التقانة، لأن استثمار المال العام بات صعباً اليوم وسط البيروقراطية التي يُعانيها ، فالخاص أكثر قدرة على التعاون بهذا المجال في حال تم تحديد الضمانات، التي غدت أبرز مشاكل تمويل المشاريع لخريج التعليم المهني، فالرابط القانوني مازال غير موجود وفق بني المرجة، مُقدماً بالوقت ذاته اقتراحه بحصر الكفالة ضمن مكان العمل أي (المشروع)، وبناءً عليه يتم الحجز على الآلات أو الشهادة في حال عدم التزام المهني بالعمل، عدا عن خسارته للفرصة وتحوّله لأجير لدى الغير.

د. بني المرجة: لن يكون إعادة اعمار بلا  تعليم مهني.. والطالب الملتزم جاهز للدخول لسوق العمل..

الطالب المُلتزم جاهز للدخول لسوق لعمل، يعود معاون وزير التربية لشؤون التقانة الدكتور المهندس محمود بهاء الدين بني المرجة ليؤكد كفاءة خريجي التعليم المهني للدخول ضمن مشاريع صغيرة ومُتناهية الصغر، فمنذ سنوات تم التركيز وتطوير الدعم للطلبة برفع نسبة قبولهم بالجامعة من ٣ – ٥٪ من المتفوقين، وفي المعاهد لـ١٠٪، إضافة للمرسوم جديد بتعيين العشرة الأوائل بصفة مدرب أو مدرس بالوزارة – توظيف مباشر-، داعياً المرصد العمالي لتوحيد الجهود والتنسيق مع الوزارة، في وقت لم تصدر أي نشرة من قبله يتم البناء عليها، فرجع الصدى من السوق يحكم التوازن ويضع الدليل للسنوات القادمة، وهو مطلوب اليوم لاعتماد دورات سريعة أو متوسطة المدى سمح بها القانون ٣٨، يُمنح بموجبه المهني شهادة تدريب، ومن ثم دفعه للعمل فوراً، فالمُبادرات لا تزال فردية حتى اليوم.

اقرأ ايضاً:

ملف «تشرين».. السياسات الإدارية للمشاريع الصغيرة.. أداة تنمية نحو تعزيز مصادر الاقتصاد الداخلي والخارجي وتحقيق التنمية المستدامة

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار