توءَمُ الفسادِ وقرينُهُ..

فاخرَ زعيمٌ عربيُّ منذ أربعةِ عقودٍ بسخاءِ وفرطِ تقاليدِ الاستهلاكِ العربيةِ، وانتقصَ من عاداتِ الترشيدِ الأوروبيةِ، وضرب مثالاً بأنهم يشترون الطماطم بالحبة ونحن نأخذها با”القفة”.

ربما لأسبابٍ تتعلقُ بخصوصية ميكانيك السلوك الفردي والعام، أو قد يُرجعها بعضهم إلى المسألةِ الجينيّة.. لم نفكر بعد بمنازلةٍ جادّةٍ مع الهدر، رغم أنه أخطرُ من الفساد أو على الأقل يوازيه بنتائجه الكارثية.. لكننا نبرِّئ الأولَ أو لم نتهمهُ بعدُ، فيما الثاني بات عدواً هلامياً نلهو بشتمهِ في أوقات فراغنا، ونرجمُه “بروتوكولياً” كما رميُ الجمراتِ على مكانِ إبليس و “أعمدةِ الشيطانِ”.
لكننا على الأرجحِ أمسينا اليوم كسوريين، وبما أننا في خِضم ورشة إعادة ترتيبٍ وتصحيحٍ للبنى وإدارة الموارد في الاتجاهين “إيراداً وإنفاقاً” ولم نعد في البداية.. فقد أمسينا أمامَ مواجهةٍ حتميةٍ مع توءم الفسادِ وشقيقهِ وقرينهِ الأبيض، فالهدرُ يبدأ هدراً ويتحول فساداً تحت ستارٍ سميكٍ من العفويةِ وقلّة الخبرة أو ادعاء المبالغة في الحرص.
وإن كنا قد أدمنا الدورانَ في دوامةِ إحصاءِ أرقامِ التدهور الناتجة عن الفساد والبحث، بشغف، عن تقارير المنظمات الدولية التي تتحدث عن الظاهرة بيننا، كما وكأنها تعلنُ اكتشافَ أجرامٍ سماويةٍ جديدة، يجب علينا اليوم أن ننشغل قليلاً بالتدقيق في أرقام الهدر على مستوى كل القطاعات، ونحن على يقين من أن الحصيلةَ ستكون أكبر من كل التوقعات.
علينا أن نبدأ فعلاً لا مجرد رفعٍ للعتب، فسيرةُ “ضغط النفقات” ليست بجديدة داخل الأروقة التنفيذية، لكن يجب أن تعلن كل جهة عن حصيلةِ الوفر لديها، بعد المواجهة الرخوة التي اختارتها وعلى أي الجبهات… ونذكر مثلاً أن حكومة سابقة فاخرت ذات عام، بضغط الباب الثاني من بند الإنفاق في الموازنة العامة، وكأنها تعلن فتحاً جديداً، لكن المفاجأة كانت أن مجمل قيمة هذا البند قبل الضغط – الإنجاز – كانت ٧٠ ملياراً في قوام موازنة عامة بالغة  أكثر من ٨  آلاف مليار ليرة ” ٨ تريليون” حينها، وصفقنا لأنفسنا ثناءً، فقد كان ذلك حسب ظننا انتصاراً وكفى.
والواقع أن المواجهة مع الهدر بحاجة إلى خطةٍ متكاملةٍ واستراتيجيةٍ مُحَوكمةٍ بدقة، والأهم الاعتراف والتصالح مع الذات، فتقاليد الاستهلاك الباقية من زمن الوفرة المفرطة لم تعد صالحة لاستبقائها، لأنها مدمّرةٌ بكل معنى ودلالة الكلمة.
نهدرُ في تقاليد استهلاك وتوزيع الوقود وفي استثمار وإنتاج الكهرباء، ونهدر كثيراً في قطاع مياه الشرب والري أيضاً، وفي قطاع الصناعة..
علينا أن نبدأ من البارحة وليس الغد، ونقولها مجازاً لإحساسنا، بإلحاح الحاجة للبدء وخطورة استمرار وقائعَ بغيضة وكئيبة، ويجب ألا نتوجس من جرأةِ المباشرة، فثمة من بادروا وتصدوا لهذا الملف الحساس، وحققوا نجاهات لم تكن متوقعة.
ففي وزارة الصناعة ثمة معالجات فنية تقنية جرت وتجري حالياً بمهارات عالية، حققت وفوراتٍ بمئات المليارات في وحدات إنتاج محددة، وأعادت إحياء موجودات معطلة منذ ثلاثين عاماً، وبصراحة وتفاؤل ليس بالحذر ..التجربة مشجعة وتؤكد أننا نستطيع، إن توافرت الإرادةُ أولاً والخبرةُ الفنيةُ ثانياً..ثم الاستثمارُ الصحيحُ للكوادر ثالثاً.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار