توجهٌ آخر لهجرة الأطباء… قراراتٌ وتعقيداتٌ تُولد خللاً أكاديمياً… واقتراحاتٌ بإعادة النظر باستراتيجيات التعليم العالي
تشرين- بارعة جمعة:
نزيفٌ مُتواصلٌ يشهده قطاع الصحة العام، وسط إغراءاتٍ مادية وعلمية تُواجه جيل الشباب، الذي انخرط بقوة ضمن موجة الهجرة المتزايدة نحو دول عربية وأوروبية عدة، هرباً من كابوس الروتين والضغط المعيشي الذي حد من قدرتهم للمواجهة، أمام مساعٍ كبيرة من العاملين بالقطاع التعليمي والصحي للاستحواذ عليهم، ضمن استراتيجيات وخطط محلية تُدرس، للحد من هذه الظاهرة التي باتت تُؤرق المعنيين في القطاع الصحي، وتتأثر بها المشافي العامة والخاصة في سورية، ما تسببت في نقص كبير في الاختصاصات الطبية الأساسية كالتخدير والأورام والجراحة وغيرها.
يقضي الطلبة نحو ثلاث ساعات يومياً، لدراسة اللغة الألمانية استعداداً لسفرهم المُنتظر في الشتاء
بديل أفضل
لم يتخيل محمود ورفاقه أن يأخذهم الحال للتفكير بالسفر خارجاً، فيما الأكثر غرابةَ من الفكرة أن تكون وجهتهم الصومال، البلد الأكثر فقراً في نظر السوريين، ليغدو محمود طبيباً مشهوراً في بلد بدأ بالتعافي فيما لا تزال سورية تُعاني حتى اللحظة بسبب الحرب عليها والحصار أحادي الجانب الظالم، في وقت بلغ أعداد الأطباء السوريين في عموم الصومال قُرابة الـ 500 طبيب، معظمهم مُختصون في طبّ الأسنان والأطفال والجراحة العامة.
حالةٌ من اللامنطقية تحكم واقعنا اليوم، فمن بلد يُنتج خبرات إلى بلاد تتلقاها تضيع الكوادر والخبرات هباءً منثوراً، ربما ليست بالظاهرة الجديدة بل المستمرة وبكثرة، أمام تراجع الواقع الاقتصادي وكثرة العراقيل التي اجتاحت مجالات الدراسة والعمل داخل البلاد، هنا فقط لا بد من الوقوف والتأمل في مجريات الواقع وما يفرزه من ظواهر غير معروفة العواقب.
أكاديمي: القرارات والأنظمة الداخلية الخاصة بكل مؤسسة لاسيما نظام الدراسات العُليا الموجود في التعليم العالي ..
في الصدارة
في أحد معاهد اللغات في دمشق، يقضي الطلبة نحو ثلاث ساعات يومياً، لدراسة اللغة الألمانية استعداداً لسفرهم المُنتظر في الشتاء وفق ما يقولون، فطبيب الأسنان حسم خيار الهجرة بعد إنهاء تخصصه، في محاولة منه لاكتساب مهارات وخبرات تساعده في مجال عمله لاحقاً في المهجر، والذي يُبرز تحدياً رئيساً يتمثل في إتقانهم اللغة الألمانية، وهو ما تطلبه السفارة الألمانية حتى يُتاح للمتقدمين فرصة تعديل الشهادة والحصول على وظيفة.
د. عباس: هجرة الاختصاصيين شكّلت هوة كبيرة وفراغاً في الكثير من الاختصاصات وخاصة الخدمية إلى جانب الاختصاصات الفرعية..
هم من نالوا المرتبة الأولى في عدد الأطباء الأجانب في ألمانيا عام 2022، وذلك حسب تقرير لمجلة طبية ألمانية، الذي تضمن إحصائية تُظهر وجود خمسة آلاف و339 طبيباً سورياً في ألمانيا، الأمر ذاته ينسحب على طلاب كلية الطب، ممن يسعون للموازنة بين مُتطلبات دراستهم لامتحان التخرج الوشيك، مسألةٌ فرضت نفسها حسب القائمين على المعاهد المُتخصّصة بتعليم الألمانية، حيث إن نسبة الأطباء في كلّ صف هي عالية نسبياً، كما بدا الإقبال الزائد عليهم أمراً لافتاً، ما استدعى فتح صفوف إضافية لاستقبال المزيد من الطلبة، مع مراعاة أوقات تفرّغهم.
تحديات واقعية
25 ألف طبيب غادروا البلاد منذ بداية الأزمة عام 2011، حصيلةٌ ليست بالقليلة، أمام امتدادها ليومنا هذا، جعلت من ملف الأطباء ضمن واقع القطاع الصحي المُتعثر أمراً مُهماً وبحاجة لإيجاد الحلول، أمام حزمةٍ من القوانين والتشريعات في القطاع الصحي والتعليم العالي وصفها عضو الهيئة التدريسية في كلية الطب جامعة دمشق الدكتور نزار عباس بالرائعة جداً لجهة قانون تنظيم الجامعات واللائحة التنفيذية له، إضافة للقرارات الخاصة بالهيئات العامة لوزارة الصحة.
د. عباس: سورية خسرت بالكم لكنها لا تزال تُجري العمليات وتُقدم الخدمات النوعية الكثير ولا حاجة لأي مواطن للسفر إلى الخارج لإجراء أي عملية
إلا أنه وفي النظر لبعض القرارات والأنظمة الداخلية الخاصة بكل مؤسسة، سنجد بأنها لعبت دوراً في موضوع الهجرة، لاسيما نظام الدراسات العُليا الموجود في التعليم العالي، الذي وفق تصريح الدكتور عباس لـ “تشرين” ليس له شبيه في الدنيا، من حيث المدة الزمنية التي من الواجب قضاؤها في الماجستير والتي تصل لسبع سنوات في بعض الاختصاصات وست سنوات في البعض الآخر وخمس سنوات للبقية، وهي فترة طويلة، بينما وعلى المقلب الآخر، نُلاحظ وجود نظام عالمي يسمى “البيزك” تكون فيه مدة الدراسة سنتين في العلوم الأساسية وثلاث سنوات في العلوم الفرعية فقط وفق د. عباس.
معاناة أكاديمية
ظروف ليست بالصحية تُواجه الطالب المُتفوق والطموح لدراسة الطب بمعدل شبه تام، وهيهات أن تُتاح له الفرصة، لمواجهته عقبة السنة التحضيرية، التي غدت أيضاً من العقبات وسببت خللاً جعل من الجامعات الخاصة وُجهة المُقتدرين، تفادياً لهذه المطبات، ليصطدم مُجدداً بنفقات عالية للدراسة، وبالتالي النُفور.
لم تنته القصة بعد.. فبمجرد تفكير الطالب بإتمام دراسته العليا سيُعاني من طول فترة الماجستير البالغة سبع سنوات، يُضاف إليها سنة تسمى (الامتياز) بعد التخرج وغير مأجورة، هو جزءٌ من القرارات والأنظمة الخاصة، لعبت دوراً كبيراً بالحث على الهجرة برأي الدكتور عباس، تليها تعقيداتٌ تتخلل نظام القبول في درجة الدكتوراه فيما بعد، صدر لها قرار من التعليم العالي لا شبيه له أيضاً، يفرض على الطالب دراسة وتقديم امتحان، وهو أمر غير مقبول لطالب دكتوراه من المُفترض أن يقدم بحثه للمناقشة فوراً، ما أنتج ردة فعل تمثلت بالهجرة.
فراغ مؤسساتي
نقصٌ وتراجعٌ حاد بتقديم الخدمات، نتيجة حتمية لشبح الهجرة التي تندرج ضمن نوعين وفق توصيف مدير عام مشفى الأسد الجامعي الدكتور نزار عباس، جزءٌ يتعلق بالاختصاصيين ممن لديهم سنوات خبرة وممارسة للعمل بالقطاع الحكومي والخاص، الذين قصدوا دولاً عربية للعمل فوراً بغرض تحسين وضعهم الاقتصادي، والذي أدى لنشوء هوة كبيرة وفراغاً كبيراً في الكثير من الاختصاصات وخاصة الخدمية منها: (الأشعة، المخبر، التشريح المرضي)، إلى جانب الاختصاصات الفرعية أيضاً الفارغة، ما أدى إلى النقص في الكفاءات، يتبعه جزءٌ يتعلق بالخريجين أيضاً.
“أتحيز للقطاع العام وأعمل بالجامعات الحكومية وأدرك تماماً ما يجري في دهاليز القطاع الخاص”، حقيقةٌ قدمها الدكتور عباس هي خلاصة تقييمه الواقع الطبي، الذي وبسبب ظروف الحرب لم تستطع الجامعات الخاصة فيه من تقديم المطلوب منها في مجال الطب، كتأمين مشفى لطلابها للتدريب، عكس الجامعات الحكومية التي تحوي ثمانية مشافي جامعية عملاقة، وبالتالي يكون التدريب فيها أفضل، أضف إلى ذلك – والحديث للدكتور عباس – المخابر التي تمتلكها جامعة دمشق العريقة، للعلوم الأساسية قبل السريرية كـ(الفيزيولوجية، والكيمياء، والتشريح)، عدا عن كون هدف الطالب الرئيسي فيها نيل الشهادة للحصول على الفيزا والسفر للخارج فوراً.
أمورٌ انعكست على تدني نسبة القبول بالدراسات العليا في التعليم العالي للجامعات الخاصة، التي خُصص لها 5 % فقط من حصة الجامعات الخاصة للطب، بالمُقابل.. هناك جامعات خاصة تعمل جاهدةً لمنافسة الجامعات العامة وتحاول الحصول على عقود لتدريب طلابها في المشافي الحكومية، وهو نوع من الغيرة على الخريج للخروج بمستوى جيد لتعديل عثرة غياب مشافي التدريب لديهم، وهنا يمكننا القول إن الأمر لم يُؤثر في مستوى المُمارسة الفعلية في المشافي الحكومية.
عامل جذب
لا يُغامر بإجراء عمليات طبية كبيرة بالقطاع الخاص، لعدم وجود إمكانيات لديها، ولأنها غير قادرة على مُنافسة المشافي الكبيرة مثل: “الأسد الجامعي ومشفى تشرين العسكري والمواساة” وغيرها، واقعٌ ملموس لعمل الأطباء بالقطاعين يُثبت كمية الأعباء التي يتحملها القطاع العام برأي د. عباس، لكونه الجاذب للمواطن في إجراء الفحوصات كلها.
د. عباس: نظام الدراسات العُليا الموجود في التعليم العالي ليس له شبيه في الدنيا من حيث المدة الزمنية التي من الواجب قضاؤها في الماجستير
ويضيف د. عباس شارحاً نسبة الخسائر المسجلة على عاتق الهجرة بقوله: “سورية خسرت بالكم، لكنها لا تزال تقف، بالرغم من نقص الأدوية والأطباء، وبالرغم من ذلك ما زلنا نمتلك خبراء بكل الاختصاصات، تُجري الخبرات العمليات وتُقدم الخدمات النوعية، بل وأضيف إليها أيضا جراحات تنظيرية وغيرها الكثير، ولا حاجة لأي مواطن للسفر للخارج لإجراء أي عملية”.
كل ذلك يدعو للتفاؤل، وما علينا فعله هو تمكين جيل الشباب بتغيير القرارات آنفة الذكر، وتعديل الوضع المادي للأطباء، فالكثير لا يرغب في الخروج ويخرج مُضطراً، نداءٌ إصلاحي أطلقه عضو الهيئة التدريسية في كلية الطب جامعة دمشق د. نزار عباس من شأنه تثبيت الطالب الخريج بعمل، كاعتماده عضو هيئة تدريسية، مُطالباً بإعادة النظر في آلية العمل المُتبعة في السنة التحضيرية، لكونها لم تُقدم أي إيجابيات، بل على العكس تُشكل إرهاقاً للطلاب والكوادر، مُرجعاً التمسك بها بصفتها تخدم القطاع الخاص لحد ما، والدليل ازدياد عدد طلاب الجامعات الخاصة بعد إقرارها وإدراجها في نظام دراسة الطب.
عودة مأمولة
حالةٌ غير صحية، طالت كل الاختصاصات، تحل مشكلات دول الغرب على حساب طلابنا ذوي المستوى العالي، توصيفٌ دقيق لتبعات الهجرة، يُعيدها البعض لعامل اللغة التي يسعى الجميع لتقويتها، في وقت أكد فيه الدكتور نزار عباس ضرورة تدريس الطب باللغة العربية إلى جانب الأجنبية، لسهولة التواصل بين الطبيب والمريض ضمن سياق الطبابة المحلية، كما أن الكثير من الدول المُتطورة تعتمد لغتها المحلية أيضاً، وليس سورية فقط .
متأملاً العودة المحمودة للجميع بقوله: ” أُمني نفسي بأن هذه الكفاءات المُهاجرة ستعود عاجلاً أم آجلاً، فهم بمنزلة موفدين سيكتسبون الخبرة، ويردمون الهوة الكبيرة بين الدراسة الأكاديمية والمُمارسة العملية، وسيشكلون جسراً لنقل خبراتهم للغير في الداخل، سيعود الغالبية بمجرد البدء بحالة التعافي وإعادة الإعمار”.